الموعظة على الجبل
بعد أن اختار المسيح تلاميذه، ألقى عليهم عظة فريدة وافية شاملة أبدية، تعتبر قاعدة المواعظ
وخلاصة الدين، تسمى (الموعظة على الجبل)، ألقاها المسيح في مكان مرتفع بقرب كفر ناحوم،
واتفق الكثير على أن هذا المكان حاليا هو (قرون حطين) وهو الجهة الشرقية الشمالية من مدينة طبرية.
والموعظة على الجبل هي أهم
وأكمل ما ورد من عظات المسيح، كما أنها الأكثر شهرة،
والأقرب عند الآخرين... كما إنها جوهر التعليم السماوي الأبدي.
هذه الموعظة دستور الملكوت الروحي الجديد الذي تحدث عنه المسيح على أساس النظام القديم الإلهي الذي انزل على موسى
والأنبياء، وجاء المسيح لا لينقضه بل ليكمله.
وقبل قراءة هذه الموعظة لابد أن نقف لنشرح الظروف الخارجية المتعلقة بهذه العظة... لقد ألقيت هذه العظة على جبل حطين الأنيس، في وسط المروج الخضراء،
وبين تغريد العصافير الأليفة،
وأريج الأزهار الجميلة.
قال اليهود في تقاليدهم أنه عندما يظهر المسيح فإنه يقف على شاطئ البحر عند مدينة اسمها يافا،
ويأمر البحر أن يسلم ما فيه من الكنوز، فيقذف البحر أمام قديمه الجواهر الثمينة
والكنوز التي دفنت في قاعه، فيلبس المسيح الناس الملابس الفاخرة
والحجارة الكريمة،
ويطعمهم مناً سماويا يفوق حلاوته ولذة المن الذي أكله آباؤهم أربعين سنة في البرية... فهذه الأقاويل
والتنبؤات تحدثت بالرموز،
وعلينا أن نفك هذه الرموز، فكما قرأنا بأن المسيح كان يحول المياه خمرا، إنما هو يحول النفس الدنيئة إلى نفس ممسوحة بالروح القدس
والنور الإلهي... كذلك فهو قدم للبشرية ما هو أغلى من كنوز بحر يافا
وأرقى من الأحجار الكريمة
وأثرى من الملابس.. إنه قدم المعراج
والسلوك الروحي للبشرية، عبر التعاليم الروحية هذه
ومن خلالها، تتحول النفس الدنيئة إلى روح منيرة تستنير أكثر كلما مر عليها الزمن، لهذا فإنه حول الماء الذي يتعكر إلى خمرة، تخمر
وتصير فاخرة أكثر كلما مر عليها الزمن... إنها رموز.
((فلمّا رأى يَسوعُ الجُموعَ صَعِدَ إلى الجبَلِ وجلَسَ. فَدنا إلَيهِ تلاميذُهُ، فأخَذَ يُعلَّمُهُم قالَ: "هنيئًا. للمساكينِ في الرٌّوحِ، لأنَّ لهُم مَلكوتَ السَّماواتِ... هنيئًا للمَحزونينَ، لأنَّهُم يُعزَّونَ...هنيئًا للوُدَعاءِ، لأنَّهُم يَرِثونَ الأرضَ... هنيئًا للجِياعِ والعِطاشِ إلى الحقَّ، لأنَّهُم يُشبَعونَ... هنيئًا للرُحَماءِ، لأنَّهُم يُرحمونَ... هنيئًا لأنقياءِ القُلوبِ، لأنَّهُم يُشاهِدونَ الله... هنيئًا لِصانِعي السَّلامِ، لأنَّهُم أبناءَ الله يُدْعَونَ... هنيئًا للمُضطَهَدينَ مِنْ أجلِ الحقَّ، لأنَّ لهُم مَلكوتَ السَّماوات. هنيئًا لكُم إذا عَيَّروكُم واَضطَهَدوكُم وقالوا علَيكُمْ كَذِبًا كُلَ كَلِمةِ سوءٍ مِنْ أجلي. اَفرَحوا واَبتَهِجوا، لأنَّ أَجرَكُم في السَّماواتِ عظيمٌ. هكذا اَضطَهَدوا الأنبياءَ قبلَكُم.))
لقد بدأت شريعة المسيح في كلمة
(طوبى)، بينما بدأت الشريعة القديمة ظاهرا في القول ((ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به))(غلاطية 10:3)
وباقي اللعنات، أما الشريعة الجديدة فقد أعلن المسيح روحها في الآية الشهيرة
((لأنه هكذا أحب الله العالم))، لذلك استحسن المسيح أن يكون استهلال حكمته بكلمة (طوبى)
وهي الكلمة التي استهل بها داوود بعض مزاميره الفائقة الجمال.
افتتح المسيح وعظته لا بالوصايا
والوعيد، بل بالتهنئة، لأنه أتى من عند الله لكي يرد للبشر سعادة فقدوها، فجعل الفرح
والمحبة من أهم أركان ملكوته،
وجمع في كلمة (طوبى) التهنئة
والفرح والسعادة، لأنه يتكلم عن الطوبى الحقيقية
وليس الوهمية الواقعية.
طوبى للمساكين:
الطوبا الأولى تقول ((طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات))
وهنا تحدث المسيح عن أشخاص غير الذين ظنهم أهل ذلك الزمان أصحاب ملكوت الماس، فهذه الحجة للتطويب لا يصدقها سامعوه، لأنهم يحسبون أن في مقدمة أصحاب السعادة رؤساء الدين من كهنة
وكتبة وفريسيين (أي ذو المناصب الدينية أو ما يتحلون بالتدين الظاهري دون التدين الباطني). لكن المسيح يرى أن التدين لا يكون بالمنصب
والاسم والمركز الإجتماعي،
ولا حتى في اللباس
والشكل، بل هو أعمق من ذلك بكثير، لهذا فإنه يرى أن ملكوت السماوات ليس لأولئك
وأمثالهم، بل للمساكين بالروح...
وكان من زمن قد استشهد المسيح في عظته الشهيرة أيضا في الناصرة بالنبوة القائلة فيه (الرب مسحني لأبشر المساكين ( لهذا خصص التطويبة الأولى للمساكين
وقال :(طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات).
طوبى للحزانى:
والطوبى الثانية أعطاها للذين يتمتعون بتعزيات الحياة في وسط مصائبهم،
ويفرحون بعد البكاء.
وكان يظن الناس أن التعزيات مخصصة للأغنياء الذين يدفعون عنهم المصائب بمعاونة ذويهم،
ويتعزون بكثرة الأصدقاء. أما المسيح فخصها للباكين من الويل
والشقاء، لأن التعزية الإلهية هي للذين قد عفي عن إثمهم...
ونجده هنا بهذه التطويبة قد مسح مسحة أمل
ورحمة إلهية...
ولأن التعزية تأتي كذلك من الملائكة... هذه المخلوقات التي ترافق الإنسان
وتعمل على هدايته
ومساعدته ومساندته في طريق الحق... فتتي تعزياتها للناس في أي مكان كانوا
وأي زمان يعيشون، لا يفصلهم حدود سياسي ولا اقتصادية
ولا اجتماعية،
ولا حتى دينية.
طوبى للودعاء:
أما طوبى الثالثة، فهي للذين يرثون الأرض. نعم
ومن هم ؟ حسب رأي الجموع في زمان هذه الموعظة هم أصحاب النفوذ، الذين بدهائهم يسيطرون على البشر،
وبمهارتهم يوسعون أملاكهم
ويزيدون ثروتهم. أليس هؤلاء هم الذين يرثون الأرض؟ أما المسيح فيرى أن الذين يرثون الأرض هم الودعاء... في ملكوت السماوات المسيح ليس المهوب بل المحبوب هو الذي يرث الأرض. حتى النبي داوود فقد قال :(بعد قليل لا يكون الشرير. تطلع في مكانه فلا يكون. أما الودعاء فيرثون الأرض
ويتلذذون في كثرة السلامة)
طوبى للجياع
والعطاش:
العطاشا
والجياع ليس من ليس لديه طعام ليشبع
وماء ليرتوي، بل هو الذي لديه جوع روحي للنور الأبدي،
وعطش خالد للجمال
والكمال... أما الشبع بالنسبة ليسوع
وبالنسبة للسامعين ليس كشبع أصحاب المناصب الذين يشتهون شيء فيأتي مالهم به،
وإنما هم لا يبالون بالغنى المادي،
ولا يشتهون خيرات هذا العالم، بل يجوعون
ويعطشون إلى البر الإلهي لأجل نفوسهم
ولأجل من حولهم...
وفي ملكوت المسيح، فهؤلاء هم الذين يشبعون
ويروون عطشهم...
طوبى للرحماء:
أما هنا فقد خص الطوبى الخامسة للرحومين، الذين ينالون من الله الرحمة
ومن الناس المراعاة. لكن هل هم الأغنياء في السلطان، أي الملوك
والحكام، والسالمون من المظالم؟
وهل هم الذين يرغمون الناس على مراعاتهم بسطوتهم؟
وبقوتهم يخدمون المصالح الدينية الخارجية،
وبذلك يكسبون عند الله أيضا المراعاة؟
يقول المسيح إن الذين يرحمون هم اللطفاء لا المتجبرون. هم الذين يراعون الناس،
وفي ملكوت السماء سينالون الرحمة، فكما قال الحكيم سليمان :"الرجل الرحيم يحسن إلى نفسه"، فمن يرحم من في الأرض فإن الذي في السماء يرحمه،
وهذا مبدأ من مبادئ
الكارما، فكما تزرع فسوف تحصد ما زرعت.
طوبى لأنقياء القلب:
في الطوبى السادسة التي هي أصعب من الكل،
وأبعدها عن تصديق العامة من الناس... إنها "طوبى لأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله"، أفليس هذا مستحيلا في هذه الحياة الدنيا؟ أفليس الله هو العلي الذي يرى
ولا يُرى؟ - كما يقولون لنا رجال الدين؟ أفلم يقل المسيح سابقا :"الله لم يره أحد قط"؟
ومع كل ذلك نعلم أن اشتهاء الإنسان لمعاينة الله أمر فطري،
وأكثر ما هو فطري في الإنسان.
وحسب تصورات الذين خاطبهم المسيح في هذه العظة، إن كان أحد من البشر يعاين الله في هذه الدنيا أو في الآخرة فهم الأغنياء في العلم
والمتفقهين بالدين
وكاتبي الشريعة
وراسمي العقيدة،
ودارسي اللاهوت، لأن لهم البصيرة الكافية ليروا من الأمور الإلهية ما لا يراه غيرهم.
لكن المسيح يرى أن أنقياء القلب هم الذين يعاينون الله،
وأنقياء القلب هم المتطهرين من كل أدران الحياة المادية
والدنيا، لا أنقياء العين، بل أنقياء القلب لأنه محل المكاشفة
والمعاينة... فإننا لا نحتاج إلى عين شاخصة، بل نحتاج إلى قلب نقي صافي، (ألم نشرح لك صدرك) (إلا من أتى الله بقلب سليم)...
ونادرا ما تجد من هو قلبه سليم في هذه الدنيا، لأنها فضيلة صعبة المنال... من قلبه سليم نقي لا يخدع احد،
ولا يكره احد ولا يعرف السوء قط... بل هو كالطفل في نقائه
وبراءته.
طويى لصانعي السلام:
وهذه التطويبة للذين يدعون أبناء الله، لقد كان
ولا زال المسيح يدعى أبن الله،
ولأن السلام ركن من أركان الملكوت السماوي، فوجد المسيح أن أبناء الله هم الذين يصنعون السلام في العالم
وليس الحرب والدمار، هم الذين يصنعون سلام في أنفسهم على ألا تتصارع عقولهم بشهوتهم،
ولكن عليهم أن يصنعوا تناغما
وسلاما بين الشهوة
والعقل... بين المتضادات حتى تتوافق، بين الحب
والكره بقالب الرحمة
والمحبة والسكينة... أن تنسجم ألامهم
وآمالهم بقالب الوعي
والشهود... هذا هو السلام... هم الذين يصنعون سلاما مع الله بالطاعة،
ومع الناس بالمحبة... لأن المسيح أتى إلينا ليصنع إنسان واحدا جديدا صانعا للسلام.
طوبى للمطرودين:
وأخيرا... يكرر المسيح الطوبى للذين لهم ملكوت السماوات. يظن سامعوه أن ملكوت السماوات، هو للأغنياء في التدين الخارجي، الذين يكثرون من الصوم
والصلاة ويقدمون الحسنات، على شرط أن يكونوا من الجنس المختار الإسرائيلي، من الذين يعتقدون أن مسيحهم متى جاء يجعل الشخص الذي كان مجده كنور النجم يصبح كنور القمر،
والذي كان مجده كنور القمر، يصبح كنور الشمس.
ويعود مجد الشعب الإسرائيلي إلى أضعاف ما كان عليه في أفخار أيام عزهم. هذا هو ملكوت السماوات الذين يحلمون به،
وهؤلاء هم الذين لهم الملكوت
ويستفيدون منه. لكن المسيح عيسى ابن مريم يرى أن ملكوت السماوات هو للمطرودين من أجل البر، الذين لهم مساكن بالروح،
والحزانى والودعاء
والجياع والعطاشا... كذلك رقيقي الشعور
وأنقياء القلب
والمسالمون، الذين لا يعتبرهم العالم بل يحتقرهم
ويجتنبهم ويخرجهم من دوائره. لهؤلاء يكون لهم الملكوت.
إن هذه السلسلة للتطويبات. لم نجد فيها حتى
ولا حلقة واحدة من الثمانية تطويبات -وهي على عدد أبواب الجنة- تتحدث عن الطقو المذهبية، أو تتناول الفرائض الخارجية...
وخلاصتها أن مسكين العالم
والحزين والباكي هو غني الملكوت، لأن الألم يطهر الإنسان،
والخاضع للناس هو الحاكم في الناس، كما قمة الهرم تسقط إذا دنت منه قاعدته من أسفله،
والجوعان للبر هو الشبعان، كما الشجرة تبحث عن الماء فتجده
وترتوي، بينما الإنسان الكسول الذي لا يبحث عن البر
والحقيقة فإنه سيكون من الميتين الناطرين يوم دفنهم،
والمعطي هو الذي يعطي،
وبسيط القلب النقي هو الفهيم،
وصانع السلام هو ابن الملك وهو المنصور،
والمطرود من وطنه أو بيته لأجل الله هو صاحب الوطن الثابت الذي لا يتغير... إنما كل ذلك
هذه التطويبات فأس، ظرب المسيح بها أصول شجرة الآمال العالمية المتعلقة بمجيء المسيح
وملكوته المادي، فالطوبى الحقيقية الدائمة لا تتوقف على الأمور الخارجية الدينية،
والطقوس الجسدية،
ولا على النجاح المادي
والزمني، بل على الأمور الداخلية الروحية
والنجاح الأبدي.
وكأن هذه التطويبات كانت مقدمة عمومية كلم بها المسيح التلاميذ اللذي اختارهم ليكونوا رسله، كما كلم الناس الموجودين على الجبل،
وكأنه يقول لهم " لقد تولدت فيكم مبدئيا الصفات التي بنيت عليها التطويبات،
وذلك يجعلكم ممقوتين من قومكم الذين تربيتم بينهم. فأقول لكم طوباكم أنتم متى عاملوكم على الكيفية التي شرحتها. فمتى طردوكم
وأهانوكم وعيروكم
وأفرزوكم من أجل البر،
ومن أجل ابن الإنسان، لا تحزنوا
ولا تتكدروا، بل افرحوا وتهللوا، أولا لأن أجركم في السماء لقاء ذلك يكون عظيما، ثم لأنكم بذلك تماثلون الأنبياء "فإنني أتيت لتكون أنت مسيح آخر" فتشتركوا في شرف الأنبياء جميعهم.
ثم أكمل حديثه:
"أنتُم مِلحُ الأرضِ، فإذا فسَدَ المِلحُ، فَماذا يُمَلَّحُهُ؟ لا يَصلُحُ إلاَّ لأَنْ يُرمَى في الخارِجِ فيدوسَهُ النَّاس...أنتُم نورُ العالَمِ. لا تَخفَى مدينةٌ على جبَلٍ.ولا يُوقَدُ سِراجٌ ويوضَعُ تَحتَ المِكيالِ، ولكِنْ على مكانٍ مُرتَفِـعِ حتَّى يُضيءَ لِجميعِ الَّذينَ هُمْ في البَيتِ. فلْيُضِىءْ نورُكُم هكذا قُدّامَ النّاسِ ليُشاهِدوا أعمالَكُمُ الصّالِحةَ ويُمَجَّدوا أباكُمُ الذي في السَّماواتِ.
وفي هذه الكلمات يقول المسيح، "أنتم ملح الأرض،
وأنتم نور العالم. فإن رفضكم العالم فإن رفضه لا يفسد ملوحتكم
ولا يخفي نوركم" فكما يفعل الملح في الطعام تفعلون أنت فعلا اصلاحيا، حتى في القوم الذين يريدون أن يهلكوكم
وماذا تنفع العجينة من دون ملح ليخمرها؟ حتى
وإن كان قليلا بالنسبة للدقيق الطحين!
هنا لم يتكلم المسيح فلسفة
ومبادئ معقدة، لكنه خاطب الناس البسطاء الفلاحين
والصيادين والنجارين، خاطبهم بلغة بسيطة تصل ببلاغتها إلى القلب
وتسكن في بساطتها العقل،
وكما الحقيقة بسيطة يكون الكلام بسيطا في أمثالة
وصورة المختارة...
وكما أن طبيعة النور هي الانتشار، هكذا لابد أن تضيء فضائلكم التي هي ثمر الروح القدس فيكم -أي ملكة الروح- فيرى الناس أعمالكم الحسنة،
ولكن ليس لتمجيدكم أنتم، وإنما لتمجيد أبيكم الذي في السماء. لأن الإنسان تجلي لمظاهر الله في الكون، كما أن الكون كله مظهر من مظاهر الله المتجلية... فكل الجمال
والكمال في الكون
ونظامه ما هو إلا جزء من المئة بالمئة من جمال الله
وكماله، فالكل في عيون الحكماء تجليات الله في الكون،
وتدعوا لإجلاله
والخشوع.
وكما السراج لا يوقد لكي ينظر الناس إليه، بل لكي ينظروا بواسطته شيئا آخر أهم منه، هكذا تكونون أنتم، لأن لا قيمه للملح في حد ذاته بل في فعله،
ولا قيمة للسراج إلا في نوره،
ولا قيمة لك كتلاميذ إلا بأن تصلحوا
وتنيروا لغيركم، بعد ان تصلحوا
وتنيروا ذواتكم...
وكأن المسيح يقول لهم (لنا) " قد أقمتكم لأجل هذا ليس بين شعب إسرائيل فقط، بل أنتم ملح الأرض بأسره
ونور العالم كله، في شخصكم قبل تعليمكم يظهر الملح
والنور، لأن الشخص الحي يفعل مالا يفعله مجرد التعليم.
كذلك عندما مات النبي محمد، فإن الله حي لا يموت..
وكما الحقيقة تنصلب
ومحمد ينرجم وعلي يقتل،
وإنما الله لا يصب
ولن يرجم ولن يقتل،
ومن علق وتوقف عند مظاهر الكرامات
والمعجزات عند الرسل
والأنبياء والأولياء فقد احترق ولم يصل،
ومن اخترق هذه المظاهر فهو الواصل...
وما هذه المعجزات إلا تأكيد
وتأييد لولايتهم
وطريقهم ، طريق النور
والوعي والشهادة على أن لا إله إلا الله...
ومن لديه عقل فليعقل.
المسيح يكمل القديم
ولا
ينقضه:
((لا تَظُنّوا أنّي
جِئتُ لأُبطِلَ الشَّريعَةَ وتَعاليمَ الأنبياءِ: ما جِئتُ لأُبطِلَ، بل لأُكمَّلَ.
الحقَّ أقولُ لكُم: إلى أنْ تَزولَ السَّماءُ والأرضُ لا يَزولُ حرفٌ واحدٌ
أو نقطةٌ واحدةٌ مِنَ الشَّريعةِ حتى يتِمَّ كُلُّ شيءٍ. فمَنْ خالفَ وَصيَّةً مِنْ
أصغَرِ هذِهِ الوصايا وعلَّمَ النَّاسَ أنْ يَعمَلوا مِثلَهُ، عُدَّ صغيرًا في
مَلكوتِ السَّماواتِ. وأمَّا مَنْ عَمِلَ بِها وعَلَّمَها، فهوَ يُعَدٌّ عظيمًا في
مَلكوتِ السَّماواتِ. أقولُ لكُم: إنْ كانَت تَقواكُم لا تَفوقُ تَقْوى مُعَلَّمي
الشريعةِ والفَرَّيسيَّينَ، لن تَدخُلوا مَلكوتَ السَّماواتِ.))
ملاحظة:
وهذا ما ذكر في سورة المائدة الآية
46((وقفينا على اثارهم
بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة
والإنجيل فيه هدى
ونور ومصدقا لما
بين يديه من التوراة
وهدى وموعظة للمتقين))
كما في سورة الصف الآية 6 ((وإذ قال عيسى ابن مريم يابني اسرائيل اني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من
التوراة ومبشرا برسول..))
وهنا يقول المسيح لنا: لا تتوهموا أن تعاليمي
الجديدة تستخف بالكتاب الذي بين يديكم، لأن زوال السماء
والأرض أيسر من زوال أدنى
نقطة من نقطه، إلا بعد أن تتم. إني أقصد إثبات الناموس المنزل على موسى
والانبياء
السابقون لا
لإلغائه. أتيت لأنقض أعمال إبليس
وليس ناموس الله
وأقوال الأنبياء،
فالناموس لا يزول إلا كما يزول البزر في الزهر، ثم في الثمر الذي زرع البزر لأجله.
الناموس في يد الكتبة
والفريسيين
لا يثمر بالصلاح، فهو كبذر الفاكهة الذي لا يؤكل،
وإن لم يزد تقواكم على تقواهم لن
تدخلوا ملكوت السماوات.
وبدلا من ان
أعفي الناس من مطاليب الناموس، جئت لأبين لهم
عظمتها فوق ما كانوا يتصورون.
شريعة الصلح :
((سَمِعتُم أنَّهُ قِيلَ
لآبائِكُم: لا تَقتُلْ، فمَنْ يَقتُلْ يَسْتَوْجِبْ حُكْمَ القاضي. أمّا أنا فأقولُ
لكُم: مَنْ غَضِبَ على أخيهِ اَستَوجَبَ حُكمَ القاضي، ومَنْ قالَ لأخيهِ: يا جاهلُ
اَستوجبَ حُكمَ المجلِسِ، ومَنْ قالَ لَه: يا أحمقُ اَستوجَبَ نارَ جَهَنَّمَ.
وإذا كُنتَ تُقَدَّمُ
قُربانَكَ إلى المَذبَحِ وتذكَّرتَ هُناكَ أنَّ لأخيكَ شيئًا عليكَ، 24فاَترُكْ
قُربانَكَ عِندَ المَذبَحِ هُناكَ، واَذهَبْ أوَّلاً وصالِـحْ أخاكَ، ثُمَّ تَعالَ
وقَدَّم قُربانَكَ.وإذا خاصَمَكَ أحَدٌ، فسارِعْ إلى إرْضائِهِ ما دُمْتَ معَهُ في
الطَّريقِ،
لِئلاّ يُسَلَّمَك الخَصمُ إلى القاضي، والقاضي إلى الشٌّرطي، فَتُلقى في السَّجنِ.
الحقَّ أقولُ لكَ: لن تخرُجَ مِنْ هُناكَ حتَّ? تُوفيَ آخِرَ دِرهَم.))
يقول المسيح هنا: إن الوصية
التي تنهي عن القتل، تنهي أيضا عن الغضب
والنميمة والبغض. صلاتكم
وقرابينكم وأضاحيكم لا تقبل بمجرد امتناعكم عن القتل، إذ يجب أن تمتنوا عن البغض...
وهذه هي
روح الوصايا وجوهرها قبل حروفها.
وتعلمتم
أن تقدموا الذبيحة
والقربان في المعبد،
وأنا أعلمكم أن ترجعوا
وتستغفروا وتتسامحوا مع الذي أسأتم
إليه، وليكن ذلك قبل تقديمكم القرابين
والصلاة لله.
شريعة الطهارة:
((وسمِعتُمْ أنَّـهُ قيلَ: لا تَزنِ.
أما أنا
فأقولُ لكُم: مَنْ نظَرَ إلى اَمرأةٍ لِيَشتَهيَها، زَنى بِها في قلبِهِ.
فإذا جَعَلَتْكَ عَينُك اليُمنَى تَخْطَأ، فاَقلَعْها
وألْقِها عَنكَ، لأنَّهُ خَيرٌ لكَ أنْ تَفقِدَ عُضوًا مِنْ أعضائِكَ ولا يُلقَى
جَسدُكَ كُلٌّهُ في جَهَنَّمَ. وإذا جَعَلَتْكَ يدُكَ اليُمنَى تَخطأُ، فاَقطَعْها
وألْقِها عنكَ، لأنَّهُ خَيرٌ لكَ أنْ تَفقِدَ عُضوًا مِنْ أعضائِكَ ولا يذهَبُ
جسَدُكَ كُلٌّه إلى جَهَنَّمَ.))
كم من أناس يعترفون بخطاياهم
الفعلية ولا يحسبون حسابا لخطاياهم الفكرية؟ ناسين
أن النظرة الشهوانية هي
الزنى بعينه؟ لأنها سببه
وأصله - إنني أشدد على استئصال جرثومة الخطأ من أساسها،
ومن كل ما يؤدي إلى ارتكابها.
لا تنسوا أنه خير لكم أن تخسروا
أثمن ما عندكم ولو كان أحد
أعضاء جسدكم، حتى العين أجملها
وأعزها، من أن تخسروا الرضى
الإلهي فهو حياتكم
وسماؤكم.
شريعة الطلاق:
((وقِيلَ أيضًا: مَنْ
طَلَّقَ اَمرأتَهُ، فلْيُعطِها كِتابَ طَلاقٍ. 32أمّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ طلَّقَ
اَمرأتَهُ إلاَّ في حالَةِ الزَّنَى يجعلُها تَزْني، ومَنْ تَزوَّجَ مُطلَّقةً
زنَى.))
لقد أجاز موسى الطلاق بسبب ماكانت عليه حال قومه من
البداوة والقساوة على زوجاتهم،
ولم يستحسن الله ذلك،
ولأنه يكره الطلاق ، حيث
كان اليهودي يطلق زوجته لأتفه الأسباب، بمجرد صدور كلمة من فمه، فصعب بعد ذلك موسى
الطلاق، وأوصى أن من أراد تطليق امرأته فليعطها رغبته في الطلاق مكتوبة.
أما في العهد المسيحي فإني اطهر هذه الرابطة
الزوجية المقدسة لتدوم. فالمرأة تبقى مرتبطة بزوجها حتى لو طلقها من دون
أن تزني ،
ومن تزوج من هذه المرأة المطلقة فهو يزني، لأنها لا تزال مرتبطة
أمام الله بزوجها
الأول.
حلف اليمين:
((وسَمِعْتُمْ أنَّهُ قيلَ لآبائِكُم: لا تحلِفْ، بل
أَوفِ للرَّبَّ نُذورَكَ.
أمَّا أنا فأقولُ لكُم: لا
تَحلِفوا مُطلَقًا، لا بالسَّماءِ لأنَّها عرشُ الله، ولا بالأرضِ لأنَّها
مَوطِـىءُ قدَمَيْهِ، ولا بأُورُشليمَ لأنَّها مدينةُ المَلِكِ العظيمِ.
ولا تحلِفْ برَأْسِكَ، لأنَّكَ لا تَقدِرُ أنْ تَجعلَ شَعْرةً واحدةً مِنهُ
بيضاءَ أو سوداءَ. فليكُنْ كلامُكُم: "نَعَمْ" أو "لا"، وما زادَ على ذلِكَ فهوَ
مِنَ الشَّرَّيرِ.))
عندكم الوصية التي توجب عليكم القيام بالقسم. أما
أنا فأقول لكم: ليس فقط لا تحلفوا كذباً . بل أيضا لا تحلفوا صدقا. انزعوا من
حديثكم كل يمين مهما كان بسيطا
وصادقا. الحلف في الحديث لا محل له إلا ليبين
أن
هذا الحديث صادق فيؤيد باليمين،
والآخر غير صادق فيترك دون يمين. أما الصادق
الوقور فيكتفي بقوله ((نعم نعم، لا لا)) عالما أن ((ما زاد على ذلك فهو من
الشرير)).
شريعة الحقوق
والانتقام:
((سَمِعْتُمْ
أنَّهُ قِيلَ: عَينٌ بِعَينٍ وسِنٌّ بسِنٍّ. أمّا أنا فأقولُ لكُم: لا تُقاوِموا
مَنْ يُسيءُ إلَيكُم. مَنْ لطَمَكَ على خَدَّكَ الأيْمنِ، فحَوِّلْ لَه الآخَرَ.40 ومَنْ أرادَ أنْ يُخاصِمَكَ ليأخُذَ ثَوبَكَ، فاَتْرُكْ لَه رِداءَكَ أيضًا.
ومَنْ سَخَّرَكَ أنْ تَمشيَ معَهُ مِيلا واحدًا، فاَمشِ معَهُ مِيلَيْن. مَنْ
طَلَبَ مِنكَ شيئًا فأَعطهِ، ومَنْ أرادَ أَنْ يَستعيرَ مِنكَ شيئًا فلا ترُدَّهُ
خائِبًا.))
شريعة الحب:
((سَمِعتُم
أنَّهُ قِيلَ: أحِبَّ قريبَكَ وأبغِضْ عَدُوَّكَ.
أمّا
أنا فأقولُ لكُم: أحِبّوا أَعداءَكُم، وصَلّوا لأجلِ الَّذينَ يضْطَهِدونكُم،
فتكونوا أبناءَ أبيكُمُ الَّذي في السَّماواتِ. فهوَ يُطلِـعُ شَمْسَهُ على
الأشرارِ والصّالحينَ، ويُمطِرُ على الأبرارِ والظّالمينَ. فإنْ كُنتُم تُحِبّونَ
الَّذينَ يُحبّونكُم، فأيٌّ أجرٍ لكم؟ أما يعمَلُ جُباةُ الضّرائِب هذا؟ وإنْ كنتُم
لا تُسلَّمونَ إلاّ على إخوَ.تِكُم، فماذا عمِلتُم أكثرَ مِنْ غَيرِكُم؟ أما يعمَلُ
الوَثَنيّونَ هذا؟ فكونوا أنتُم كاملينَ، كما أنَّ أباكُمُ السَّماويَّ كامِلٌ.))
أنتم تظنون أنه جائز لكم
أن تبغضوا الذي يبغضكم،
وتعادوا الذي يعاديكم،
وتحبوا من يحبكم.
لكن جوهر ضميركم الداخلي، هو روح الله الذي وضع
الناموس. الذي ينزل مطره
ويشرق شمسه على
أعدائه كما على أحبائه. فإن عاديتكم من عاداكم وأحسنتم إلى الذين يحسنون إليكم، لا تكونون أفضل من عبدة الأصنام
والكفرة.
فلا تقابلوا شراً بشر. إن أحسنتم إلى من يسيء إليكم، تخمدون جذوة العداوة.
وتطفئون
لهيب البغض. اتخذوا الكمالات الإلهية قاعدة لحياتكم فتكونوا حقا (ليس فقط إسما)
بأنكم خلفاء الله على الأرض.
ولكن اعلموا
أن كل الوصايا تحفظ في القلب حفظا روحيا
قبل حفظها حرفيا في لسانكم
وعقلكم، لأن حفظها على لسانكم لا يعتبر عند الله
إذا لم يكن هو حالكم.
الصدقة
والصوم:
((إيَّاكُمْ أنْ
تعمَلوا الخَيرَ أمامَ النَّاسِ ليُشاهِدوكُم، وإلاَّ فلا أجرَ لكُم عِندَ أبيكُمُ
الَّذي في السَّماواتِ.
فإذا أحسَنْتَ
إلى أحدٍ، فلا تُطَبَّلْ ولا تُزمَّرْ مِثلَما يَعمَلُ المُراؤونَ في المجامعِ
والشوارعِ حتى يَمدَحَهُمُ النَّاسُ. الحقَّ أقولُ لكُم: هؤلاءِ أخَذوا أجرَهُم.
أمَّا أنتَ، فإذا أحسنتَ إلى أحدٍ فلا تَجْعَلْ شِمالَكَ تَعرِفُ ما تعمَلُ
يمينُكَ،4 حتى يكونَ إحسانُكَ في الخِفْيَةِ، وأبوكَ الذي يرى في الخِفيَةِ هوَ
يُكافِئُكَ.
وإذا صَلَّيتُمْ،
فلا تكونوا مِثلَ المُرائينَ، يُحِبٌّونَ الصَّلاةَ قائِمينَ في المَجامِـعِ
ومَفارِقِ الطٌّرُقِ ليُشاهِدَهُمُ النَّاسُ. الحقَّ أقولُ لكُم: هؤُلاءِ أخذوا
أجرَهُم. 6أمَّا أنتَ، فإذا صَلَّيتَ فاَدخُلْ غُرفَتَكَ وأغلِقْ بابَها وصَلٌ
لأبيكَ الَّذي لا تَراهُ عَينٌ، وأبوكَ الَّذي يَرى في الخِفْيَةِ هوَ يُكافِئُكَ.))
أنا لا ألغي الفروض الدينية الموحى بها من الله،
كالصدقة المتجهة نحو القريب،
والصلاة المتجهة نحو الله،
والصوم المتجه نحو الذات.
لكن يشترط في هذه الفرائض أن لا تحفظ أمام الناس فقط، أو تستخدم كوسيلة من
أجل
الافتخار والتعظم،
وربح مدح الآخرين،
وآلة للرياء. فإن كنتم لا تتصدقون
وتصلون
وتصومون في الخفاء، لا تحسب صدقاتكم
وصلواتكم وصومكم الجهاري عند الله، لأنكم إذ
ذاك تكونون مرائين.
الصــــــلاة:
((ولا تُرَدَّدوا الكلامَ تَردادًا في صَلواتِكُم مِثْلَ
الوَثنيّينَ، يَظُنٌّونَ أنَّ الله يَستَجيبُ لهُم لِكَثرةِ كلامِهِم. لا تكونوا
مِثلَهُم، لأنَّ الله أباكُم يَعرِفُ ما تَحتاجونَ إلَيهِ قَبلَ أنْ تسألوهُ.
فصلّوا أنتُم هذِهِ الصَّلاةَ: أبانا الَّذي في السَّماواتِ، ليتَقدَّ?ِ اَسمُكَ
ليأتِ مَلكوتُكَ لتكُنْ مشيئتُكَ في الأرضِ كما في السَّماءِ. أعطِنا خُبزَنا
اليَوميَّ، واَغفِرْ لنا ذُنوبَنا كما غَفَرنا نَحنُ لِلمُذنِبينَ إلَينا.
ولا تُدخِلْنا في التَّجرِبَةِ، لكنْ نجَّنا مِنَ الشَّرَّيرِ. فإنْ كُنتُم
تَغفِرونَ لِلنّاسِ زَلاّتِهِم، يَغفِرْ لكُم أبوكُمُ السَّماويٌّ زلاّتِكُم. وإنْ
كُنتُم لا تَغفِرونَ لِلنّاسِ زلاّتِهِم، لا يَغفِرُ لكُم أبوكُمُ السَّماويٌّ
زلاّتِكُم.))
الصلاة هي أهم فرائض الدين،
وهي ليست عبارة عن
تكرارات لتسر الإله الذي تصلون له.
لا بد للصلاة المقبولة
أن تكون نابعة من القلب، وأن تخاطبوا الإله حيث إنه وكيلكم، فتتكلون عليه.
ولا يجب مخاطبة الإله بصورة فردية
فتقول (أبي أو إلهي) بل بصورة جماعية ، لأن الصلاة تقبل إذا خاطبته بصورة جماعية
وتطلب الخير لك
وللإخرين فتقول (أبانا أو إلهنا) الذي في السموات.
ولا تطلب غفران
الله نفسه إلا
وتقدم لأخوتك غفران سيئاتهم محوه.
لا بد ان تعرفوا محبة الله للبشر هي محبة البشر
للبشر كإخوة بعضهم لبعض..
وقد ذكرت لكم في هذه الصلاة طلب النجاة من الشرير،
هذا الطلب هو اعتراف بقوة الشيطان العظيم
وسطوته على البشر،
وبأن لا نجاة منه إلا
بنور الله الذي ينيركم في الظلمات... فله وحده الملك
والقوة والمجد.
المؤمن
والمال:
((لا تَجمَعوا
لكُمْ كُنوزًا على الأرضِ، حَيثُ يُفسِدُ السٌّوسُ والصَّدَأُ كُلَ شيءٍ، وينقُبُ
اللٌّصوصُ ويَسرِقون.
بلِ
اَجمَعوا لكُم كُنوزًا في السَّماءِ، حَيثُ لا يُفْسِدُ السٌّوسُ والصَّدأُ أيَّ
شيءٍ، ولا ينقُبُ اللٌّصوصُ ولا يَسرِقونَ.21 فحَيثُ يكونُ كَنزُكَ يكونُ قَلبُكَ.
سِراجُ الجسدِ
هوَ العَينُ. فإنْ كانَت عَينُكَ سَليمَةً، كانَ جسَدُكَ كُلٌّهُ مُنيرًا. وإنْ
كانَت عَينُكَ مَريضَةً، كانَ جسَدُكَ كُلٌّهُ مُظلِمًا. فإذا كانَ النٌّورُ الَّذي
فيكَ ظَلامًا، فيا لَه مِنْ ظلامِ!
لا يَقدِرُ أحَدٌ
أنْ يَخدُمَ سَيَّدَينِ، لأنَّهُ إمّا أنْ يُبغِضَ أحدَهُما ويُحبَّ الآخَرَ، وإمّا
أنْ يَتبعَ أحدَهُما ويَنبُذَ الآخَرَ. فأنتُم لا تَقدِرونَ أنْ تخدُموا الله
والمالَ.))
أحذركم كل التحذير من حب المال،
وأذكركم أن كنوز
العالم فانية،
ولن تبقى إلا الكنوز السماوية،
وما أسعد من تعلق قلبه بالسماء لا
بالأرض، ولذلك يتسهل له الصلاح...
وأما إن ساد في قلبه حب المال، فيستحيل عليه أن
يحب الله كما يجب...
والكنز في السماء هو ثمر ما يعمله الإنسان
ويبذله في سبيل
خير الناس، حبا بالله.
لأنكم نور العالم، يستنير بكم غيركم، كما يستنير
الجسم بواسطة العين الصحيحة، فإن فقدتم أنتم الصلاح، فكم بالحري يفقده الذين ليس
لهم من ينيرهم؟
إن عناية الله بمخلوقاته واضحة في طيور السماء التي
ترفرف وتغرد فوق رؤوسكم،
وفي الآزهار التي تزهو تحت أقدامكم.
فكيف لا يعتني الله بالذين خلقهم على صورته تعالى؟ فإن كل ما في الجو من فوق،
وكل ما على الأرض من أسفل، يشهد فعلا لعنايته تعالى
بما قد خلق. وما دام يعتني بأدناها، كيف يمكن
أن يهمل أسماها؟ الذي وهب الجسد
لعجيب لا يبخل بالكساء الزهيد؟
والذي وهب الحياة الثمينة لا يتأخر عن تقديم
القوت الرخيص لأجل حفظها؟
صحيح أن الإنسان يجب
أن يهتم بالحاجيات الجسدية،
لكنه يجب أن يفعل ذلك،
وهو متكل على عناية الآب السماوي،
وهكذا لا يكون نهبا
للقلق، ويجيء اهتمامه بالماديات بعد اهتمامه
بالامور الروحية.. وما هي فائدة
الإنسان لو لم تساعده العناية الإلهية؟
فإذن ملجأكم في الدرجة الاولى هو هذه العناية، ليس
اهتمامكم انتم.
وكيف تفوقون على غير المؤمنين إن كنتم تهتمون بالدنيويات كما يهتم
الوثنيون ؟؟ وأقدم لكن اعظم نصيحة عندي
واحلاها ((أطلبوا اولا ملكوت الله
وبره ،
والباقي كله يزاد لكم))
((لذلِكَ أقولُ
لكُم: لا يَهُمَّكُم لحياتِكُم ما تأكُلونَ وما تشرَبونَ، ولا لِلجسدِ ما
تَلبَسونَ. أما الحَياةُ خَيرٌ مِنَ الطَّعامِ، والجسدُ خَيرٌ مِنَ اللَّباسِ?
أنظُروا طُيورَ السَّماءِ كيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحْصُدُ ولا تَخزُنُ، وأبوكُمُ
السَّماويٌّ يَرزُقُها. أما أنتُم أفضلُ مِنها كثيرًا؟ ومَنْ مِنكُمْ إذا اَهتَمَّ
يَقدِرُ أنْ يَزيدَ على قامَتِهِ ذِراعًا واحدةً؟
ولِماذا
يَهمٌّكُمُ اللَّباسُ؟ تأمَّلوا زَنابقَ الحَقلِ كيفَ تَنمو: لا تَغزِلُ ولا
تَتعَبُ.29 أقولُ لكُم: ولا سُليمانُ في كُلٌ مَجدهِ لبِسَ مِثلَ واحدَةٍ مِنها.
فإذا كانَ الله هكذا يُلبِسُ عُشبَ الحَقلِ، وهوَ يوجَدُ اليومَ ويُرمى غَدًا في
التَّــنّورِ، فكَمْ أنتُم أولى مِنهُ بأنْ يُلبِسَكُم، يا قليلي الإيمانِ؟ لذلِكَ
لا تَهتمّوا فتقولوا: ماذا نأكُلُ؟ وماذا نشرَبُ؟ وماذا نَلبَسُ؟ فهذا يطلُبُه
الوَثنيّونَ. وأبوكُمُ السَّماويٌّ يعرِفُ أنَّكُم تَحتاجونَ إلى هذا كُلَّهِ.
فاَطلبوا أوَّلاً مَلكوتَ الله ومشيئَتَهُ، فيزيدَكُمُ الله هذا كُلَّه. لا
يَهُمَّكُم أمرُ الغدِ، فالغدُ يَهتمٌّ بنفسِهِ. ولِكُلٌ يومِ مِنَ المتاعِبِ ما
يكْفيهِ.
دينونة الآخرين:
((لا تَدينوا لِئلاَّ تُدانوا. 2فكما تَدينونَ
تُدانونَ، وبِما تكيلونَ يُكالُ لكُم. لماذا تَنظُرُ إلى القَشَّةِ في عَينِ أخيكَ،
ولا تُبالي بالخَشَبَةِ في عَينِكَ؟ بلْ كيفَ تقولُ لأخيكَ: دَعْني أُخرجِ
القَشَّةَ مِنْ عَينِكَ، وها هيَ الخَشبَةُ في عينِكَ أنتَ؟ 5يا مُرائيٌّ، أخْرجِ
الخشَبَةَ مِنْ عَينِك أوَّلاً، حتى تُبصِرَ جيَّدًا فَتُخرِجَ القَشَّةَ مِنْ
عَينِ أخيكَ))
لا تكونوا من الذين يدينون بعضهم بعضا، فالحكمة
تنهي عن هذا، لأن الناس يعاملونك كما تعاملهم. فالذي يكشف عيوب الناس تكشف الناس
عيوبة. والميال إلى دينونة الآخرين يكون مدفوعا من الافتخار
والانتقام، فيذمُّ
افتخاراً وانتقاماً ،
والأغلب أنه ظالم في الحالتين، لأنه يرى عيوب الآخرين، ليست
كما هي بل مكبرة في عينيه،
ويرى عيوبه هو لا كما هي بل مصغرة في عينيه... لهذا ،
لا بد أن يزيل عيبه حتى يصلح الآخرين، فتخرج الخشبة من عينك، حينئذ تبصر جيدا
وتخرج القشة
التي في عين أخيك.
إسألوا تعطوا، أقرعوا يفتح لكم:
((لا تُعطوا
الكِلابَ ما هوَ مُقَدَّسٌ، ولا تَرموا دُرَرَكُم إلى الخنازيرِ، لِئلاَ تَدوسَها
بأَرجُلِها وتلتَفِتَ إلَيكُم فتُمزَّقَكُم.
إسألُوا تُعطَوا،
إطلُبوا تَجِدوا، دُقّوا البابَ يُفتحْ لكُم. فمَن يَسألْ يَنَلْ، ومَنْ يَطلُبْ
يَجِدْ، ومَنْ يَدُقَّ البابَ يُفتَحْ لَه. مَنْ مِنكُم إذا سألَهُ اَبنُهُ رَغيفًا
أعطاهُ حَجَرًا، أو سَألَهُ سَمَكةً أعطاهُ حَـيَّةً؟ فإذا كُنتُم أنتُمُ الأشرارَ
تَعرِفونَ كيفَ تُحسِنونَ العَطاءَ لأَبنائِكُم، فكَمْ يُحسِنُ أبوكُمُ السَّماويٌّ
العَطاءَ للَّذينَ يَسألونَهُ؟
عامِلوا
الآخَرينَ مِثلَما تُريدونَ أنْ يُعامِلوكُم. هذِهِ هيَ خُلاصةُ الشَّريعةِ
وتَعاليمِ الأنبياءِ.))
أوصيكم أن تكونوا حكماء
مميزين في أحاديثكم ، لئلا تعرضوا كلامكم على غير جدوى للهزء
والاحتقار، فتكونوا
كمن يعطي المقدس للكلاب
ويطرح جواهره
أمام الخنازير. لكل مقام مقال، فيجب
أن يناسب
التعليم المقام الذي يقدم فيه
وأحوال السامعين. أؤكد لكم أن الله الذي في السماء
مستعد لاستماع صلواتكم
واستجابتها. إن كان الأب البشري وهو خاطئ لا يتأخر عن طلب
أولاده، إن كان خيرا لهم،
ويخلص فيما يمنحه، فكيف يمكن أن يتخلى الآب الذي في السماء الكامل عن تضرعاتكم؟ أو
يهبكم شيء ليس هو الخير الحقيقي؟ وأول ما يريد
أن يهبه هو الروح القدس (الحكمة
والبيان) للذين يطلبونه .
وأسلمكم أيضا القاعدة
الذهبية، التي لا يمكن المبالغة في جمالها
ومفعولها، فهي تحل المشكلات الأخلاقية
للذين يمارسونها.
وتغني عن ألوف الوصايا المفضلة لأنها الأفضل منها. هذه القاعدة
هي ((كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا أنتم أيضا بهم، لأن هذا هو
الناموس والأنبياء)) .
الباب الضيق
والباب الواسع:
((أُدْخُلوا مِنَ
البابِ الضيَّقِ. فما أوسَعَ البابَ وأسهلَ الطَّريقَ المؤدَّيةَ إلى الهلاكِ، وما
أكثرَ الَّذينَ يسلُكونَها. لكِنْ ما أضيقَ البابَ وأصعبَ الطَّريقَ المؤدَّيةَ إلى
الحياةِ، وما أقلَ الَّذينَ يَهتدونَ إلَيها.
"إيَّاكُم
والأنبياءَ الكَذَّابينَ، يَجيئونَكُم بثِيابِ الحُملانِ وهُم في باطِنِهِم ذِئابٌ
خاطِفةٌ. مِنْ ثِمارِهِم تعرِفونَهُم. أيُثمِرُ الشَّوكُ عِنَبًا، أمِ العُلَّيقُ
تِينًا؟ كُلُّ شَجرَةٍ جيَّدةٍ تحمِلُ ثَمرًا جيَّدًا، وكُلُّ شَجَرةٍ رَديئةٍ
تحمِلُ ثَمرًا رَديئًا. فما مِنْ شَجرَةٍ جيَّدةٍ تَحمِلُ ثَمرًا رَديئًا، وما من
شَجرَةٍ رَديئةٍ تَحمِلُ ثَمرًا جيَّدًا. كُلُّ شَجرَةٍ لا تَحمِلُ ثَمرًا جيَّدًا
تُقطَعُ وتُرمَى في النَّارِ. فمِنْ ثِمارِهِم تَعرِفونَهُم.
ما كُلُّ مَنْ
يقولُ لي: يا
يسوعٌّ، يا
يسوعٌّ!
يدخُلُ مَلكوتَ السَّماواتِ، بل مَنْ يَعملُ بمشيئةِ أبـي الَّذي في السَّماواتِ.
سيَقولُ لي كثيرٌ مِنَ النّاسِ في يومِ الحِسابِ: يا مخلصٌ،
يا مخلصٌّ، أما باَسمِكَ نَطَقْنا بالنٌّبوءاتِ؟
وباَسمِكَ طَرَدْنا الشَّياطينَ؟ وباَسمِكَ عَمِلنا العجائبَ الكثيرةَ؟ فأقولُ
لهُم: ما عَرَفتُكُم مرَّةً. اَبتَعِدوا عنَّي يا أشرارُ!))
هناك طريقين أمامكم يسير جميع الناس في احداها.
الأول طريق ضيق في بدايته،
ولكنه رحب في نهايته.
والثاني العكس، رحب ي بدايته
وضيق جدا في نهايته. فأنصحكم
أن تختاروا الطريق الضيق. ولا تقتدوا بأكثر البشر،
لأنهم يفعلوان بالعكس، إذ يختارون ما هو راحة حالية، غاضين النظر عن الأبدية.
وانبهكم إلى العلاقة بين الشجر
والثمر، والتي
تستلزم أن يكون الثمر من جنس الشجر، فأعمال الإنسان لا تكون إلا تابعة لحالة قلبه
الداخلية، يمكن
أن يدعي
إنسان أنه نبي مرسل من الله،
وأنه يتكلم بكلام الأنبياء،
لكن بمرور الأيام لا بد أن تثمر طبيعته في اعمالة. ولا بد أيضا من قطع
وإلقاء في
النار كل غصن يثمر ثمرا رديئا.
ولا يوقف هذا القطع احتجاج الذين يتسترون تحت ثوب
الرياء، متظاهرين بالتدين، متكلين على حسناتهم الخارجية امام الناس،
وهم يهملون
الوصايا الإلهية التي لا تروق لهم أو ان تخالف أغراضهم. قد يكونون من الذين تنبأوا
بمجيئي، ويخرجون الشياطين،
وهم يعترفون بي بأفواههم،
ولكنهم لم يفعلوا إرادة
الله الذي في السماوات.. فسأجيب على استنجادهم في يوم الدين ((إني لم اعرفكم قط.
إذهبوا عني يا فاعلي الإثم))
العاقل والجاهل:
فمَنْ سمِعَ
كلامي هذا وعمِلَ بِه يكونُ مِثْلَ رَجُلٍ عاقِلٍ بَنى بَيتَهُ على الصَّخْرِ.
25فنزَلَ المَطَرُ وفاضتِ السٌّيولُ وهَبَّتِ الرِياحُ على ذلِكَ البَيتِ فما
سقَطَ، لأنَّ أساسَهُ على الصَّخرِ ومَنْ سَمِعَ كلامي هذا وما عمِلَ بِه يكونُ
مِثلَ رَجلٍ غَبـيٍّ بنَى بَيتَهُ على الرَّملِ. فنَزَلَ المطَرُ وفاضَتِ السٌّيولُ
وهَبَّتِ الرَّياحُ على ذلِكَ البَيتِ فسَقَطَ، وكانَ سُقوطُهُ عَظيمًا".
وفي الختام، أقدم لكم تشبيها مفيدا جدا، لأن
الذي يعرف مشيئة الله
ويعملها يشبه الشخص الذي يضع أساس بيته على الصخرة.
والذي
يعرف ولا يعمل يشبه الذي يبني بيته على أساس رملي بجانب مجرى الماء، فما دام الجو
صافيا والرياح ساكنة، يظهر أن الذي بني على الرمل هو الحكيم، لانه استراح من متاعب
الحفر ونفقاته، فيهنئ نفسه
ويهنئه الآخرين...
ولكن صفاء الجو
وسكون الريح لا
يدومان إلى الأبد، فمتى جاءت الريح يظهر من هو الحكيم الذي سلم بنائه. الذي يعرف
ولا يعمل يتلذذ حاليا بملذات الدنيا،
ويجتنب المصاعب في سبيل البر، لكن متى هبت
رياح الدَّين ،
ونزل مطر الغضب الإلهي، جاءت انهار عذاب الضمير،
وحدث سيل إرسال
الخطاة إلى مكانهم في الهلاك، فيسقط هذا الشخص حالا
ويكون خرابه عظيما، بينما
الاول لا يسقط ولا يتزعزع لأنه مؤسس على صخر.
((
ولمّا أتمَّ يَسوعُ هذا الكلامَ،
تَعَجَّبتِ الجُموعُ مِنْ تَعليمِه، لأنَّهُ كانَ يُعَلَّمُهُم مِثلَ مَنْ لَه
سُلطانٌ، لا مِثلَ مُعلَّمي الشَّريعة
ِ))
طباعة الصفحة
من أجل طباعة
الصفحة، تحتاج إلى قارئ
PDF |
|
|