|
|||||||||
> الصفحة الرئيسية - الحكمة - الحكيم أوشو |
|||||||||
لا تضع لنفسك الحمايات والأسوار
يقول لاتسو: عندما يولد إنسان، يكون طري وضعيف، بينما يموت وهو صلب متيبس؛ يولد المرء وهو لطيف ورقيق، ويموت وهو جاف متصلب. لذلك، الصلابة والخشونة مرافقة للموت، بينما النعومة واللطافة مرافقة للحياة. عندما يكون الجيش جامح مندفع، سيخسر الحرب. عندما تكون الشجرة صلبة قاسية سوف تقطع. الكبير والصلب ينتمي لأدنى قسم من الشجرة، بينما الرقيق اللطيف ينتمي لقمة الشجرة. الحياة نهر، انهمار، استمرار بدون بداية ولا نهاية. لن تجري الحياة لأي مكان آخر، إنها هنا متواجدة الآن دائما. لن تذهب الحياة من شخص إلى آخر، إنها آتية من هنا وإلى هنا. الوقت الوحيد للحياة هو الآن.. المكان الوحيد للحياة هو هنا.. لا تصارع من أجل أن تصل إلى حالة تحيا بها الحياة، لأنك لن تجد الحياة في مكان آخر، إنها هنا الآن. لا حاجة للكفاح والنضال للتغلب على أمر ما، لا حاجة لمجهود تقوم به.. لا يوجد شيء لتحمي نفسك منه.. إن حاولت أن تبني أسوار عالية وحصون متينة فإنك لن تحجب عنك إلا الحياة نفسها، لأن ليس هناك غير الحياة.. الحياة وحدها.. تماما وحدها.. وجميلة بوحدانيتها.. مهيبة وفاخرة بوحدتها. بإمكانك أن تعيش الحياة بطريقتين. بإمكانك أن تنساب مع انسياب الحياة، فتصبح أنت مهيب وعظيم كما هي الحياة، تشعر بالجمال والسمو كما هي الحياة، تستطعم نعمة اللامقاومة، اللاصراع، اللاكفاح.. عندها سيكون لديك ما يشبه جمال الأطفال والورود، الجمال الناعم الرقيق، الجمال الذي لم تفسده الجاهلية والأهواء. إذا تحركت مع الحياة بانسيابية تكون متديّن. هذا ما يعنيه الدين للاوتزو، ولي أنا أيضا. الدين الذي يعرفه الناس هو أن تصارع الحياة من أجل الله. بهذا يكون الهدف هو الله، وعليك أن تحارب الحياة وتنكرها وتتجاهلها، عليك أن تضحي بالحياة من أجل أن تصل إلى الله او تحصل على الله أو على رضاه. هذا هو الدين عند عامة الناس. هذا هو الدين الذي نجده في كل مكان. الدين هذا جزء من العقل الذي يعيش في عنف وصراع وتهجم.[1] لا يوجد إله في ما بعد الحياة، الحياة هي الله. إذا أنكرت الحياة، أنكرت الله، إذا ضحيت بالحياة، فقد ضحيت بالله. في جميع التضحيات التي قدمتها وتقدمها في حياتك، هي تضحيات لا تقدم فيها سوى الله. سيبدو لكم ما قاله جورج غوردجييف [2] غير معقول، ولكنه حقيقة، قال: "جميع الأديان ضد الله!" إذا كانت الحياة هي الله، فعندما ننكر الحياة ونهجرها ونضحي بها، في حقيقة الأمر فإننا نهجر ونضحي بالله ونكون ضد منهجه. لكن يبدو أن غوردجييف لم يعرف الكثير عن لاوتزو، أو حتى لو عرفه لقال الأمر نفسه، لأن لاوتزو لا يبدو أنه متدين عادي، إنما تدينه كما هم الشعراء والموسيقيين والفنانين، كمبدع وليس كواعظ أو راهب أو فيلسوف. إنه يبدو عادي جدا، بحيث إن رأيته فلن تعرف إنه متدين. –حقاً؛ أن يكون المرء متدين يعني أن يكون ويبدوا عاديا جدا بدون أدنى اختلاف عن الكل، بحيث ألا يشذ الجزء عن الكل، بل الجزء ينساب يتجانس مع الكل. أن تكون متدين هي أن لا تنفصل عن دفق الفيض وجريان نهر الحياة.[3] والعكس صحيح، ألا يكون المرء متدين هي أن يتصرف بأنا عقله ego، عقله الذي يبذل الجهد كي يكافح ويصارع ويفوز، أن يفوز ويصل إلى مكان ما، إلى هدف ما. لن تكون متدين إن كنت تفكر في الغد.. تضيع الفرصة عندما تفكر بالغد، لأن الدين حاضر ها هنا ليس له غد، لهذا يقول عيسى: "لا تفكر في الغد، انظر إلى الزنابق في المروج، وهي تتفتح الآن" كل شيء له كينونة يعيشها، كينونة أن يكون الآن حاضرا في هذه اللحظة. الآن هو الوقت الوحيد، الآن هي لحظة الخلود الوحيدة..[4] هناك احتمالين لا ثالث لهما، الطريقة الأولى هو أن تصارع الحياة وتحصل على أهدافك الشخصية الخاصة بك.. وفي هذه الطريقة فإنك تحاول أن تفرض نمط حياة أو شيء ما من نفسك.. تحاول أن تجعل الحياة تتبع منهجك، وليس أنت إلا جزء صغير جدا في الحياة كيف لك أن تجرّ الكون كله معك؟ وبالطبع ستكون الهزيمة من نصيبك، ستفقد الجمال والسمو الذي وهبتهما الحياة لك، وتتجه بهذا نحو الصلابة والجفاف والقسوة، كما هم الأموات. الصراع يولّد الصلابة والخشونة. بمجرد أن تفكر في العراك والمقاومة، ستشعر بالشدة والصلابة التي تحيط حولك. فكّر في المقاومة وستشعر بأن القسوة تغطيك كالشرنقة. والفكرة بذاتها التي تتحدث فيها عن أهدافك، تجعلك كالجزيرة المنعزلة عن الحياة. الأهداف لا تجعلك كالقارة الكبيرة التي لا تغرق، بل تجعلك كالجزيرة المنعزلة عن الحياة. عندما تكون مفصول عن الأرض، قد تعيش قليلا على الأغذية المتبقية من الماضي، وبالتدريج تقترب من الموت. الشجرة تحتاج إلى جذور، تحتاج أن تكون الشجرة على الأرض مختلطة ومرتبطة بالتربة. تحتاج بشكل كامل أن تنضم بشكل كلي مع قارة الحياة، وتكون جزء منها، وتكون جذورك ضاربة في أعماق باطن الحياة.. وعندما تتمسك بتربة الحياة، تصبح ناعم ويانع كأوراق الشجرة الكبيرة.. لأنك لا تشعر بالخوف أبدا. الخوف من الموت والانعزال يولد الصلابة، الخوف يولد فكرة الضمانات وتأمين الحياة، الخوف يولد فكرة بناء الأسوار العالية لحماية نفسك.. ولا شيء يقتل المرء مثل الخوف، لأن فكرة الخوف بحد ذاتها تفصلك عن الحياة وتقتلع جذورك تماما. عندما تفكر بالماضي، وكأنك تقتات على الماضي وتحيا منه. وليست صدفه أن يكون الفعل -أي فعل، أي مجهود يقوم به المرء- يقوم على مبدأ إما الماضي أو المستقبل. نحن نفكر كثيرا في الماضي، ولماذا نفكر كثيرا به؟ إن ما قد فات فقد فات! لا يمكن للماضي أن يعود أو يتصلّح. الماضي ميّت، لماذا نستمر بالتفكير به؟ لا يوجد ما نقوم به باتجاه الماضي، لا يمكنك أن تعيد الماضي وتحيا به. لا يمكن أن تدمر الماضي وتمحوه. إنما بإمكان الماضي أن يدمر الحاضر ويمحوه! لكن ما سبب تفكير معظم البشر في الماضي؟ لابد أن يكون هناك سبب! يعود السبب العميق أن كل فرد يعيش في صراع دائم مع الكل، مع الحياة.. يقاتل الحياة، يسبح عكس تيار النهر، كل فرد يقتلع جذوره بحيث صار بلا جذور أو بجذور ضعيفة هزيلة.. كل فرد صار منغلق على نفسه يشعر بالوحدة، لم يعد المرء جزء من الكون الواسع العظيم.. ولهذا أصبحوا الناس شحيحي اليدين، مقبوضة دائما، تتغذى وتقتات على الماضي. ولهذا يستمرون بالتفكير في الماضي. وطالما أنك تقتات على الماضي، منغلق على نفسك، ستشعر بالخوف، وبناء على هذا فإنك تستجمع نفسك وتستعد للصراع والمقاومة والقتال، ومن هنا تفكر في المستقبل. تمنح فكرة المستقبل شعور الأمل. الماضي يمدك بالتغذية، والمستقبل يمدك بالأمل. بينما الحياة والخلود والأبدية لا تكون إلا بين هذين الإثنين. عندما تفقد الحياة الحاضرة الآن هنا، فإنك تموت، لأنك تقتات على ماضي ميت ومستقبل لم يصل بعد. هناك طريقة أخرى لتحقق كينونتك، أي أن تكون حاضر ها هنا في هذه اللحظة دون ماضي أو مستقبل، الطريقة الوحيدة هي أن تغوص عميقا فيما تفعله الآن. لا يمكنك أن تحقق كينونتك وتكون في الحاضر عندما تقوم بالصراع والسباحة ضد النهر، إنما عليك أن تسبح مع تيار النهر، وتنساب معه، وبهذا تكون في الحاضر ولن تشعر بأنك مفصول، بل موصول معه. وتصبح جزء منه، ومغمور به، تصبح أنت النهر إذ لا انفصال أو اختلاف بينكما. عندما لا تتصارع مع الحياة تصبح الحياة كلها. عندما لا تقاوم تصبح الأعظم والأضخم. في الشرق يسمون هذه الحالة بالاستسلام، أو الثقة بالحياة، أو الايمان، في الهند نسميها shraddha؛ الثقة بالوجود، الثقة بالحياة. لا تتحقق الثقة عن طريق الاعتقاد بها في العقل المنعزل، ولكن تكمن في أن ينغمس كيان الإنسان بالحياة ويختبرها. لا يمكن أن نثق بالجزء الصغير المحدود، ولكننا نثق بالكل اللامحدود. لا أثق بالعقل، بل أثق بالوجود الذي يمكن أن أستسلم له. وهنا يصبح المرء ناعما بعدما كان قاسيا يصارع الحياة. يصبح ناعم منساب برقة، لأن لا حاجة حينها ليكون صلبا لأنه لن يقاوم الحياة. ومن هنا تختفي العدائية بينك وبين الحياة، فلا أسوار عالية لتحمي نفسك. ولا عداوة بعد اليوم ولا مقاومة ضد الحياة. الحياة مضمونة، الحياة آمنة. إنما الأنا عند الأفراد هي الغير آمنة وغير ذي ثقة، لا يمكن أن تشعر بالأمان عند الأنا، لهذا تحتاج أن تحمي نفسك. الأنا تخاف من الموت، الأنا ترتجف دائما وتحاول أن تعظّم نفسها حتى لا تموت، ولهذا يعيش المرء في قلق وحرب.. لا يمكنه أن يحيا الحياه هكذا. حياته تفتقر للبهجة والمتعة. بمجرد أن ينفتح المرء على الحياة، بدو ضمانات وأسوار عالية، سيختبر الأمان في الحياة والثقة والإيمان بها، سيذوق رحيقها ويشتم عبقها وأريجها. بمجرد أن ينفتح المرء على الحياة، تنهمر الحياة عليه ويشعر بالغبطة والفرح والمتعة بصورة دائمة وليست في لحظة مؤقته وبدون حساب أو سبب يذكر، لأن الحياة دائما كريمة، ومن طبيعتها أن تنشر الفرح والاحتفال دائما. وبمجرد أن يشعر المرء ويدرك بأنه ها هنا موجود في حضن الحياة، سيشعر بالسعادة مهما كان، أينما كان. من هنا الهندوس أطلقوا اسم على المطلق اللامحدود اسم Satchitananda الحق، الوعي، النعيم، الهناء. يعني أنه لو حققت كينونتك ووصلت إلى الحياة فإنك تصل إلى النعيم. أن تعيش حقيقة الحياة وصلبها هو أن تكون في منتهى النعيم. لا يوجد طريقة أخرى ليحقق المرء كينونته سوى هذه الطريقة. إن شعر المرء بالبؤس يعني أنه فقد الاتصال مع الحياة، أن تشعر بالبؤس والكآبة يعني أنك قطعت جذورك مع تربة الحياة وأصبحت منفصل عن النهر، كلوح الثلج الذي يطفح فوق النهر ولكنه لم يذب في النهر بعد. والأنا دائما ما تريد أن تذهب عكس التيار لتعرض عضلاتها للنهر، لتقول بأنها أقوى من النهر، لا يمكن للأنا أن تقبل بالانسياب مع النهر لأن بانسيابها يعني أنها خاضعة وضعيفة أمام النهر، ولهذا دائما تحاول الأنا أن تتحدى الكل وتعيش في صراع دائم. وإن لم تجد من تصارعه وتقاومه فستشعر بالبؤس. الأنا كي تعيش تحتاج أن تصارع أحد ما. ومن هنا ينبع شعور وفرح مزيف عندما يعيش المرء الصراع والعراك أو التحدي في كل شيء، ولكن هذا الشعور يعبر عن مرض نفسي عصبي[5]. إذا تصارعت تصبح صلبا وتحيط نفسك بجدار ميت. وتفقد معها النعومة والطراوة والانسيابية والسمو واللطافة. "لاوتسو" يقف بجانب الاستسلام والثقة. يقول دائما: "استسلم للكون والحياة، اسمح للكون أن يرشدك ويدلك على الطريق، لا تحاول أن تتفوق على الحياة، لا تحاول أن تتلاعب وتسيطر على الحياة.. اترك الحياة تتلاعب بك وتسيطر عليك، اترك الحياة لتمتلكك.. استسلم لها ببساطة وقل في نفسك "أنا لست أنا" وقدم كل القوة للحياة وكن معها واسر معها". إنه لأمر صعب، لأن الأنا تقول: "من أنا؟ لماذا أستسلم؟ لم أعد مفيدة بعد الآن، لم أعد موجودة بعد الآن" عندما تختفي الأنا من الوجود، تظهر حقيقتك للوجود، تتحقق كينونتك لأول مرة في الحياة وتستطعم هذا الأمر. وستشعر للمرة الأولى بأنك لست محدود أبدا وإنك أبعد من حدود الجسد هذا.. تشعر بالضخامة واللاحدود الذي يستمر بالتوسع أكثر وأكثر، لا بداية وله ولا نهاية. الأنا لا تعرف عن هذه الأمور شيء. ستردد عليك دائما قولها: "ما تفعله لن يفيدك إلا خسارة نفسك وضياعها" إن استمعت للأنا، فإنك ستقطع الطريق وتعود أدراجك إلى المرض العصابي، ستعد تبحث عن لباس جديد و"شخصية" جديدة حتى تعظّم الأنا نفسها. كلما أصبحت شخصية ما أو لبست لباس ما، كلما ابتعدت عن الحياة. أنظر إلى الشخصيات التي نجحت في الحياة، والذين صاروا مشهورين ومهمين للجمهور، الشخصيات ذو الأسماء التي لا تختفي من التاريخ، الشخصيات ذو الأسماء التي لا تختفي من أسئلة البرامج التلفزيونية والمسابقات، من فعل كذا؟ ومن قال هذه المقولة؟ من بنى ومن حقق ومن غنى.. إلخ. أنظر إلى أصحاب تلك الأسماء وراقبهم، ستجدهم يعيشون حياة مزيفة، يلبسون أقنعة، ولا يتمتعون بغنى باطني أبدا، بل فارغين تماما من الداخل، أناس مجوفين. لا يحيون الحياة ولهذا يشعرون بفراغ، فيصنعون أكذوبة لأنفسهم ليعيشوا ويقتاتوا منها. راقب الناس الذي نجحوا في الحياة، والذين صاروا رؤساء، وزراء، زعماء، رجال دين، أغنياء، والذين حصلوا على كل ما يمكن الحصول عليه في العالم. راقبهم، انظر إليهم، تلمس حياتهم، ستجد فيها الموت. لن تجد فيها قلب يدق ويخفق. قد تسمع لهم قلب يدق ولكن دقاتهم ميكانيكية. الخفقان فقد شعوره! ينظرون إليك ولكن عيونهم فارغة، ينظرون إليك ولكن لا يرون. ولن تجد لديهم شوق شديد لكي يحيون الحياة. قد يصافحون يدك، ولكنك لن تشعر أي طاقة بأيديهم، لن تجد دفء وترحيب، بل عبارة عن يد ميتة، وثقل ستشعر به. لن تجد عندهم الحب، انظر حولهم، ستجدهم يعيشون في جحيم.. نعم لقد نجحوا وصاروا شخص ما يعرفه العالم، ولكن لن يتمتعوا بشيء حولهم سوى الجحيم.. وأنت ستكون على المسار نفسه إن حاولت أن تكون شخصية ما وتصبح أحد ما ناجح يلتف حوله الجمهور ويتحدث عنه. يقول لاوتسو، لا تصير شخصا، بل كن اللا-أحد، وعندها ستجد الحياة اللامحدودة تنهمر عليك. وإن لبست شخصية ما فإن تلك الشخصية ستكون عائق وسد منيع. إن صرت لا-أحد ستكون واسع يمكنك ان تحتوي على كل دفق الحياة، الذي يسع النجوم والسماء. لا شيء يمكن أن يزعج أو يضيق دفق الحياة فيك. ولن تجد بعدها ما تخسره لأنك إن استلمت الحياة، فإنك حصلت على كل شيء. في هذه اللحظة التي تستمر الحياة بالتدفق نحو الشخص، فإن الفرد يظل شاب للأبد.. قد يتقدم الجسد بالعمر ويشيخ، ولكن قلب وجوهر المرء لن يشوبه عطل أو هرم، بل يضل نضر يشع الجمال منه. بل لا يموت أيضا. إن لاوتزو وجميع المستنيرون يشيرون إلى أن هذا هو الطريق ليكون المرء متديّن. اندمج مع "التاو" لا تخلق أي أهداف خاصة بك، لأن الكل يعرف مصلحة الجزء، يعرف مصلحة الجزء أكثر من الجزء نفسه. الكل خلق الجزء وسواه بصورة جميلة، الكل تنفس في الجزء ومَنَحَهُ الحياة. لماذا يقلق الجزء ويهتم بأمور هامشية دنيوية؟ دع مسؤوليتك على عاتق الكل، واتبع الكل إلى حيث يأخذك، لا تحاول أن تخطط وتجبر الكل على أن يتبع أهدافك، ولا تسأله عن خططه أو أهدافه، لأنك بهذا ستخلق الحنق والتذمر، وعندها ستولد الصلابة فيك وتفوت فرصة أن تكون حي مع الكل.[6] هذه هي المسألة، إذا سمحت للحياة بإنعاشك، فستنتعش أكثر وحياة ستجلب لك المزيد والمزيد، إذا سمحت لنفسك أن تحيا قليلا، فإن الحياة ستجلب لك المزيد والمزيد من الحيوية، فقط دع الباب مفتوح واستقبل. يقول عيسى دائما: تعال إليّ، وانا سأوريك الطريق لحياة لا نهائية، حياة غنية وافرة وغزيرة، حياة منهمرة كالشلال، حياة مليئة بالفيوضات" لكننا نعيش كمتسولين دائما. كان من الممكن أن نعيش كالأباطرة، وليس هناك مسؤول عن هذا سوى الأنا التي سببت للبشرية الشقاء والبؤس. تقول السوترا:[7] عندما يولد المرء، يكون هش ورقيق. انظر إلى طفل حديث الولادة، لن تجد أي قشرة جافة حوله، ستجده رقيق وهش قابل للجرح بسهوله، ستجده متفتح للحياة، وستجد الحياة ترقص حوله بنقائها وصفائها. ولن تطول الحياة معه حتى تقترب الشخصيات الاجتماعية التي تدور حوله، وسيجد الطفل نفسه في قفص المجتمع كالأسير. قفص العائلة والمدرسة والجامعة. حينها سيعيش بعيدا عن الحياة، سيتقيد كالسجين. ستخفق الحياة في عمق أعماقه ولكنه لن يستطيع سماعها لانشغاله في قفصه الصغير. راقب الوليد الجديد مرة أخرى، راقبه مرة تلو الأخرى.. ستحدث معجزة ما. لأن الحياة تحاول أن تريك الطريق بشكل أو بآخر، ودائما تجدد الحياة نفسها في كل لحظة؛ الكهول يموتون، والصغار يولدون في كل لحظة.. ما الهدف من ذلك؟ من الواضح أن الحياة لا تقتنع بالكهولة والعجز. ولو أن الحياة تُدار من قبل الاقتصاديين، فستكون الحياة بالنسبة لهم تجارة غير رابحة، ممارسة غير اقتصادية، وهدر للممتلكات. فالرجال الكبار في السن لديهم خبرة وتدريب طويل في الحياة والعالم، عندما يكون مستعد للاستثمار، عندما يعتقد إنه وصل إلى الحكمة، فإن الموت يأتيه ليصارعه ويسلبه حياته، وتستبدل الحياة الشيخ المسن ذو خبرات كبيرة، بطفل صغير جديد دون خبرة تذكر! تستبدل الحياة شيخ كبير ذو خبرة قديمة في الحياة بطفل صغير ليس لديه شيء، كالورقة البيضاء؟ إن سألت الاقتصاديين فسيقولون أن هذا جنون وحماقة! وعلى الله أن يستشير الاقتصاديين اولاً حتى يعرف ما الذي سيفعله؟! إنه يهدر الثروة ويسرف فيها! إنسان ما مدرب وذو خبرة في الحياة عمرها ثلاثين سنة، يموت؟ وطفل غير مدرب، ذو عقل خالي تماما نستبدله ونمنحه الحياة؟ الا يجب أن يكون الأمر عكس ذلك تماما؟ عندها سيكون الأمر ذو استثمار ناجح بدون تبذير لثروات الحياة؟! إنما الحياة لا تؤمن بالاقتصاد. والحمد لله أنها لا تؤمن بالاقتصاد، وإلا لتحول العالم كله إلى مقبرة كبيره. الحياة تؤمن بالعيش والتمتع والاحتفال، وليس بالاقتصاد. الحياة تستمر باستبدال الناس الكهول بأطفال جديدة.. أناس أموات بشباب حيويين، أناس صلبين قاسيين بأناس لينين لطيفين. والإشارة واضحة في هذا الأمر! والمغزى مفهوم تماما؛ الحياة تحب الرقة واللطافة، لأن يمكن لها أن تتدفق في ذلك المخلوق الناعم، لكنها لا تتدفق في المخلوق الصلب القاسي. عندما يولد المرء، يكون هش ورقيق. "لاوتسو" يصر على نقطة أخرى وهي؛ أن الحياة لا تؤمن بالقوة. يكمن في الضعف جمال، لأنه ناعم ولين. عاصفة قوية تأتي، وأشجار قوية كبيرة تسقط وتتكسر، بينما الحشائش الصغيرة تنحني وترقص مع العاصفة.. تمضي العاصفة بعد حين، فتبتسم الحشائش الصغيرة وتزهر مرة أخرى. لأن العاصفة أنعشتهم ولم تزعجهم، لقد أبعدت الغبار عنهم.. هذا كل ما في الأمر. تصبح الحشائش الصغيرة منتعشة أكثر من قبل.. تصبح نضرة ونظيفة أكثر من ذي قبل. إنما الأشجار الكبيرة والقوية جدا تتكسر وتتساقط لأنها لا تستطيع المقاومة، لم تنحني مع الرياح.. لأن الأنا عندها كبيرة وقوية. يقول لاوتسو "الحياة تحب الضعف"، وهذا يطابق ما قاله عيسى: "طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ. طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ" دائما ما تفوّت المسيحية المعاني في أقوال المسيح، لأنها أقوال "لاوتزو" مالم يعودوا إلىه ويقرأوا له لن يفسروا المعنى الصحيح لأقوال المسيح. جميع تعاليم عيسى تدعو لأن يكون المرء حي وضعيف. لهذا يقول "إذا لطمك أحدهم على خدك الأيمن فحول له خدك الأيسر أيضا، إذا اراد أحدهم معطفك اعطه قميصك أيضا، وإذا ما أجبرك أحد أن تمشي معه ميلاً، فاذهب معه ميلين. ويقول: "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ." لماذا الضعف والنعومة مباركة؟ جميع قادة العالم يوصون الشعب بأن يكون قويا، بينما المسيح و"لاوتزو" يطلبون من الآخرين بأن يكونوا ضعاف! لابد أن هناك سر ما في الضعف! أن يكون المرء قوي يحتاج لأن يكون صلب، ولكي يكون المرء صلبا عليه أن يكون ضد الحياة. إذا أراد أن يكون المرء صلبا، عليه أن يقاتل التيار، ولهذا سيصبح قوي. لا توجد طريقة أخرى ليصبح المرء قويا إلا بهذه الطريقة. على المرء أن يسير ضد التيار، تيار النهر يصب إلى الأسفل، والمر عليه أن يسبح إلى الأعلى، وكلما تعارك المر وتحدى التيار كلما صار أقوى. انسياب المرء مع التيار والسباحة باتجاهه تجعل المرء ضعيفا، وهكذا، إذا طلب النهر منك أن تذهب معه ميل واحد، فاذهب معه ميلين، إذا طلب النهر معطفك اعطه قميصك أيضا، إذا صفعك النهر على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر أيضا. الضعف فيه جمال وسمو ولياقة، جمال اللاعنف، جمال معني بالحب والغفران، جمال اللاصراع. لا يمكن للإنسانية أن تعيش بسلام ما لم تفهم "لاوتزو" جيدا وتشعر بما يقوله. إذا حفزك أحدهم لأن تكون قويا، فيجب عليك القتال والعراك المستمر. كل القادة السياسيوّن في العالم يقولون أنهم يحبون السلام، وكلهم يحضّرون للحرب ويستعدون له! يقولون أنهم يقفون بجانب السلام، بينما هم يستمرون بجمع أكوام من القوات الحربية. يتحدثون عن السلام بينما يعدون عدة الحرب. وعذرهم الوحيد هو أنهم يجب أن يكونوا جاهزين مستعدين لأي حرب، لأنهم يخافون من الطرف الآخر! والطرف الآخر يكرر الأمر نفسه ويردده! وهذه هي الحماقة. الصين تخاف من الهند، والهند تخاف من الصين. لما لم يلتفت أحدهم لهذه النقطة؟ روسيا تخاف من أمريكا وأمريكا تخاف من روسيا، وكلاهما يتحدثان عن السلام، وكلاهما يعدان عدة الحرب الذي يخلقونه بأنفسهما. تتحدثون عن السلام وكأنه قمامة. حديثكم عن السلام ما هو إلا حرب باردة. في الواقع السياسيون يحتاجون الوقت لكي يعدو عدة الحرب، وفي أثناء ذلك يتحدثون عن السلام حتى يتسنى لهم الوقت الكافي لتجهيز عدتهم للحرب. ولمدة قرون طويلة، عاشت الإنسانية بين مرحلتين لا ثالث لهما: مرحلة الحرب، ومرحلة التحضير للحرب. هاتان المرحلتان الوحيدتان التي عرفتها البشرية. التاريخ كله يبدوا أنه مريض بمرض عصابي. ولكن هذا الوضع طبيعي طالما أن القوة تجلس على كرسي المجد، القوة ممجدة، الأنا ممجدة، ولهذا الوضع يعتبر طبيعي، لأن كلاهما نتاج الآخر. فلو كان هناك شخصين يتصارعان في الشارع، وواحد يبدو أقوى من الآخر، يسقط الضعيف على الأرض متألم، والقوي يقف على صدرة. فأيهما ستمجد وتشجع؟ هل ستشجّع الشخص الذي كسب المصارعة أم الذي خسر؟ إن كان جوابك بأنك تشجع الذي فاز فهذا يدل بأنك شخص عنيف، ودائما ستقف لصالح الحروب وتؤيدها، وتجد لها مليون عذر وتحليل.. تثير الحرب، شخص خطير ومريض بالأعصاب. لن تجد أي شخص يشجع الرجل الذي خسر المصارعة، لا أحد يقدّر الضُعفاء، لا أحد يريد أن يرتبط مع الضعيف وينتمي له، لأن في أعماقهم جميعا يريدون أن يصبحوا أقوياء. عندما تشجع القوي، تقول في نفسك: نعم، هذا مثلي الأعلى، أود أنا أيضا أن أكون مثله. إذا مجدت القوي، فإنك تمجد العنف، إذا قدّرت القوة فإنك تقدر الموت.. لأن كل قوة تقتلك وتقتل الآخر أيضا.. القوة متهورة مجرمة انتحارية. الضعف هي كلمة، فيها من الإدانة والحكم ما فيها. ولكن ما هو الضعف؟ الوردة ضعيفة ورقيقة. بينما الصخرة بجانب هذه الوردة تكون قوية جدا. فهل تحب أن تكون كالحجر أم كالوردة؟ تذكر أن الوردة ضعيفة جدا، ورياح بطيئة قد تكسرها أو تقتلعها من جذورها، ومعجزة إن بقيت الوردة أمام الرياح، لأنها ضعيفة ورقيقة، كيف لها أن تنجو؟ يبدوا أن الوضع مع الصخور ممتاز ومريح، لأنهم يستمرون بالبقاء، ولديهم القوة الكافية لكي يواجهوا الرياح. ولكن الوردة التي لا تجد لها دعم من أحد قد لا تنجو من الريح. الوردة الغير حقيقية المصنوعة من البلاستيك تستطيع أن تواجه الريح وتبقى للأبد، ولكنها غير حقيقية.. تبدو الوردة الصناعية قوية جدا لأنها غير حقيقية، بينما الوردة الحقيقية هي ناعمة وضعيفة وهشة، وكلما كانت الوردة الحقيقية طويلة وعالية كلما صارت أنعم وأضعف. لا تستطيع أن تفهم الله لأن عقلك يفهم منطق الصخور. لا يمكنك أن تفهم منطق الأزهار، لأن عقلك يفهم الحسابات المرتبة، لم يمتلك عقلك بعد الحسبة الجمالية لكي تشعر بالزهور. فقط عقل الشاعر المرهف هو من يفهم منطق الله. لأن الله هو الأنعم والأرق، لذلك الله هو في أعلى مرتبة من المطلق، الزهرة المطلقة، الجمال المطلق.. الله يزهر، ولكن أزهاره تبقى أقل من ثانية واحدة، وهذا ما يسمى بـ الحضرة، اللحظة الراهنة، اللحظة الحاضرة الحالية. هي لحظة صغيرة نسبيا، يجب عليك أن تكون يقظ بشكل كلي حتى تشعر بها، وإلا ستفتقر إلى الله وتفقده. الله يزهر بشكل دائم، في كل لحظة تتفتح لله زهرة، ولكنك لا تستطيع أن تراها لأن عقلك مشوش بالماضي والمستقبل. بينما الحاضر لحظاته دقيقة جدا وضيقة، تمر بشكل سريع، كما هي رمشة العين. في هذه اللحظات السريعة الضيقة يمكن أن تشتم زهور الله في قلبك. إنه الأعلى، المطلق دائما، لكنه كالزهرة الرقيقة والناعمة جدا جدا، وهكذا يجب أن يكون لأنه القمة والذروة والأوج والعظمة. له المستوى الأعلى والأكمل، لا حد له ولا بعده شيء. بإمكانك أن تفهم الله فقط عندما تفهم منطق النعومة والضعف، إذا حاولت أن تكون قويا، هازما للكل ومصارع ومحارب للجميع، عندها ستعيش في عالم الأرض محاطا بالصخور وليس بالأزهار. والله سيغدو ظاهره تتحدث عنها حديثا طويلا، تحقيقه بعيد المنال عنك. لن يكون بإمكانك أن تلتقي بالله في أي مكان في هذه الحياة. عندما يولد المرء يكون طري وضعيف، وعندما يموت المرء يكون صلبا قاسيا. هذا ما يجب أن تكون عليه حياتك، أن تكون طريا وضعيف.. لا تحاول أن تكون صلباً خشنا، لأن بتلك الطريقة فإنك تجلب موتك أكثر وأكثر.. الموت حتما سيحل لا محالة اليوم أو غدا.. هذا ليس مهما.. الموت لا يشكل مشكلة اطلاقا. ولكن إن كنت تعيش حياة الموت بشخصيتك كل يوم، هنا تكمن المشكلة! الموت بحد ذاته رقيق ولطيف، ألطف من الحياة نفسها.. لأنه يمكن للمرء أن يسمع صوت الحياة، ولكن لا يمكنه أن يسمع صوت الموت.. لأنه ناعم جدا لا صوت له، لا يمكن أن تصمع صوته أبدا حتى لو للحظة واحدة. الموت لا يشكل مشكلة أبدا، ولكن إن كنت تخاف الموت وتعيش الموت وأنت حي تتنفس، فتلك هي المشكلة. أن تعيش حياة ميتة تلك هي المشكلة. الانغلاق، الصلابة تعني الموت. الفيلسوف "ليبنيز"[8] يسمى أسلوب الحياة الصلبة هذه بـ Monad موناد، يعني منغلق كما هو السجن، كما هي الكبسولة، لا نوافذ لها لتنظر بها إلى الخارج، أو أن يلقي عليك أحدهم نظرة إلى الداخل. "الموناد" مغلق تماما لا شبابيك فيها، مثل خلية السجن. كلمة Monad أتت من نفس جذر كلمة Monopoly وMonastry أي الدير و monkأي الراهب وmonogamy أي الزواج الأحادي (شريط حياة واحد طوال الحياة)؛ جميع تلك الكلمات تعني أن تكون لوحدك. الراهب هو الفرد الذي يعيش وحيدا، الدير هو المكان الذي يعيش فيه الناس منعزلين للتعبد. عندما تكون لوحدك في خلية ميتة، تكون في دير، كأنك تعيش في كهف، لا يمكنك أن تصل للآخرين، وليس للآخرين امكانية الوصول إليك. وهذا هو الموت، حيث القسوة واليبوسة. وعندما تشعر بالكآبة والبؤس، فإنك تبحث عن وسائل للتخلص من هذا العنف، تبحث عن وسائل لتقاوم هذا البؤس والكآبة، تكون عنيدا وصارما مع شعورك الحزين. وبهذه الطريقة لا يمكنك أن تحل هذه المشكلة، لن تتخلص من الكآبة بهذه الطريقة. إنما إن جاريت شعورك وكنت لينا معه، ستتخلص منه بسهولة. كن كالطفل، بنعومته ونقائه. لا تفقد الاتصال بالطفولة. وستندهش بأن الطفل الذي كان موجودا قبل خمسين سنة، لا زال يعيش مختبئا في باطنك. إذا عرفت كيف تتصل معه، فإنك ستكون أيضا طفل بري، ولكن ليس طفل جاهل، إنما طفل بريء يتمتع بوعي. إن لم تشعر بالطفولة ولم تتصل بالطفل الذي في باطنك، هذا لا يعني أنه مات، أو أنه بعيدا عنك أو أنه أصبح شاب أو كهل.. لا يعني إن تحولت من طفل إلى شاب إلى رجل مسن إلى كهل؛ لا يعني أن الطفل قد تحول وأن الشباب قد تغير وتبدل. لا تفقد أي من تلك المراحل أبدا، بل هي عبارة عن طبقات تتراكب في وعيك، وتختبئ في أعماقك. لا تفقد أي من تلك المراحل؛ فالوليد الذي كنت تعيش مرحلته يبقى معك إلى الأبد. ولكن مع التقدم بالعمر ونمط الحياة الاجتماعية تخلق حجب وفواصل تفصلك عن المراحل تلك، ولو أزيلت تلك الحجب ستندهش عندما ترى أن الوليد والطفل لا زال موجود فيك.. ستشعر بينبوع من الطفولة يتفجر فيك. وهذا التفجر هو ما أسميه بالنشوة والوجد. يقول المسيح: "إن لم تعودوا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت الله" هذا ما كان يعنيه عيسى، وهذا ما أتحدث عنه. إذا اخترقت قشرتك الصلبة، وهدمت الجدران من حول باطنك، ومسحت الطبقات العديدة المتراكمة، ستفجر ينبوع الطفولة في داخلك. وستنظر مرة أخرى إلى العالم بنظرة جديدة، بعينين تملؤهما البراءة. عندها يمكنك أن ترى الله. الله ليس نظرية فلسفية. إنما هو هذا العالم الذي لا تراه إلا بعين الطفل. العالم نفسه، الأزهار نفسها، الجبال والأنهار نفسها.. إنما أنت من يتغيّر وتحمل للدنيا نظرة جديدة، ستكون للدنيا ألوان أخرى بالنسبة لك، وتشعر بجودة سماوية، وبصمة إلهية في كل شيء عندما تنظر إليها بعيون الطفولة. الله لم يضيع ولم يموت، نحن من نبحث عن الله، نحن من نفتقد إلى الله.. الله لم يغب إنما هو حاضر أبدا.. إنما نحن من غاب عنه. عندما يولد المرء، يكون طريا ضعيفا، وفي لحظة الموت يكون صلبا خشنا.. عندما تكون الأشياء والنباتات مفعمة بالحياة تكون ناعمة ومرنة، وعندما تموت تكون جافة وقاسية. تعلم، فالحياة تعلمك بطرق شتى. الحياة توضح للإنسان كيف له أن يكون. لذلك، الصلابة والخشونة هم رفيقا الموت.. بينما النعومة والضعف رفيقا الحياة. أذا أردت أن تمتلئ بالحيوية أكثر، إذن ابحث عن رفقاء الحياة، اللين، العذوبة، اللطافة.. بينما الأمور الأخرى التي تجعلك صلبا، تكون رفيقة الموت. عش بطريقة بحيث تكون حرا أكثر من اللحظة التي تسبقها.. الإنسان يتحرر أكثر، لا أن يتقيّد أكثر مع مرور الوقت. حالتك الآن كالآتي: شخص لديه منزل كبير بغرف عديدة، وفي كل غرفة هناك ألاف من الألغاز التي يجب أن يحلها، على الطاولة لغز، وعلى الكراسي والأسرة والأرضية وأما الشبابيك ألغاز، وكذلك ألغاز متدلية من السقف وأما التلفاز والحمام.. لم يكن بإمكانه أن يحل أي منها، فيحاول أن يحل واحد من الألغاز، يعجز عن ذلك، يشعر بصعوبة، فينتقل إلى لغز آخر. فيظل اللغز الأول معلق في رأسه.. ليس ذلك فقط، أحيانا يحمل اللغز معه ليحاول حله فيما بعد.. يحاول الآن أن يحل اللغز الثاني.. ولكنه يعجز أيضا لأنه محتار باللغز الاول، ثم يحتار باللغز الثاني.. عندها ينتقل إلى غرفة أخرى.. وهكذا يستمر يتقيّد بلغز فينتقل أكثر إلى لغز آخر ويتقيد بلغز جديد إلى جانب الألغاز الأخرى التي مرت عليه. يضطرب فكره بمجموعة من الألغاز الغير محلولة.. شيئا فشيئا يصاب بمرض عصابي. حتى الآن لم يفكك الإنسان نقطة واحدة أو لغز واحدمن ألغاز الحياة، آلاف من الألغاز تدور حوله.. والالغاز هذه تقتل الإنسان وتقتل أخيه الإنسان.. ويزداد عدد القتلى كل يوم. لا تحمل أمور الماضي إلى اليوم، لأن الماضي انتهى.. تخلص من الماضي في كل لحظة، تحرر من الماضي في كل لحظة، إن كان الماضي قد حُلّت ألغازه أم لم تُحَل. ولا تحمل أجزاء من الماضي إلى المستقبل، اترك الماضي للماضي والمستقبل للمستقبل وعش حاضرك. عش هذه اللحظة بكليتك قدر المستطاع. وفجأة ستصل إلى ادراك أنه إن عشت اللحظة بنفسها فإنها ستحل نفسها بنفسها. الحياة ليست مشكلة يجب أن نحلها.. بل أحجية يجب أن تعيشها وتندمج معها، لا أن تنفصل عنها وتفكر بها. إذا حييت بالحياة بغموضها فإن الغموض سينقشع وتكشف اللعبة، وستخرج من الحياة ثريا بثراء الحياة العذبة واللطيفة، بكنوز جديدة تغني كيانك، ولن يزعجك شيء ما بعدها. لا تستمر بتكديس اللحظات التي لم تعشا في الماضي، وإلا ستصبح صلبا.. بإمكانك أن تبقى لينا إذا لم تحمل معك أي شيء من الماضي. لماذا الأطفال ناعمين يمتلؤون بالحيوية؟ لأنهم لا يحملون الماضي ولا المستقبل. طريقة عيشهم هي طريقة عيش الحكماء؛ إذا غضب الطفل، فإنه يشعر بالغضب في هذه اللحظة. لا يهتم بما قاله النبي عن الغضب ولا يهتم بما قاله بوذا عن الغضب، حيث قال: "لا تغضب".. إنما يعيش الطفل غضبه بشكل تام، وبكثافة عظيمة.. بحيث يصبح جميلا وهو غاضبا.. انظر إلى الأطفال وهم غاضبون، ستجد أن جميع أجزاء الجسد الصغير الناعم تنبض غضبا، كما لو كان سيدمر العالم كله وينفجر بالغضب. وبعد لحظات من غضبه يختفي الغضب تماما ويعود على اللعب مجددا. انظر على وجهه مرة أخرى وهو يلعب، لن تصدق ما يحدث.. هذا الوجه الذي كان غاضبا قبل لحظات، عاد إلى الابتسامة مرة أخرى.. وستشعر بجمالة وسعادته. هذه هي الطريقة التي عليك أن تعيشها، عش اللحظة بكليتها، كن في تلك اللحظة وعشها واستهلكها ولا تترك فيها جزء لم تعشه وتشعر به.. عش الغضب بكليتك والفرح بكليتك.. الطفل يعيش لحظة الغضب بكليتها، ثم يترك هذه اللحظة ويذهب على لحظة السعادة ويترك اللحظة السابقة. عندما يتطور التعليم في العالم، فلن نعلم الأطفال كيف يسيطرون على غضبهم وألا يشعرون بالغضب. بل نعلمهم كيف يكونوا غاضبين بكليتهم، ونعلمهم أيضا بالا يحملوا غضبهم إلى المستقبل.. لأن الغضب بحد ذاته ليس سيئا، إنما السيئ هو أن تحمله في كل وقت وكل مكان، وبهذا يتراكم غضب على غضب فيشكل خطر. ومضات من الغضب شيء جميل، بل من الضروري أن نشعر بالغضب أحيانا! لأن الغضب يعطي نغمة ورنين لطيف في الحياة، يجعلون الحياة أكثر ملوحة، وإلا ستشعر بالترهل والرخاوة، لولا الغضب لن تشعر بانسيابية ونغم بالحياة. إن الغضب تمرين جيد بحد ذاته.. وإن عاشه الفرد بكليته، وتركه خرج من لحظة الغضب إلى اللحظة الأخرى التي تليها، فإنه سيشعر بالسعادة والرضا والانتعاش.. لا خدش في هذا ولا خطأ أبدا. الفرد الذي يمكنه أن يكون غاضبا بكليته، يستطيع أن يكون سعيدا بكليته أيضا، يستطيع أن يحب بكليته، لأن الموضوع لا يتعلق فيما إذا شعر المرء بالحب أو الغضب أو السعادة.. بل يتعلق في الإنسان الذي يجب أن يتعلم من كل الخبرات التي يمر بها، ولا يتعلم إلا من خلال تواجده بكليته في لحظة الغضب ولحظة الفرح ولحظة الرضا. إذا كان من المحظور عليك أن تغضب، فلن تكتمل كفرد بإنسانيتك، ستكون ناقص.. فتعيش لحظتك بشكل جزئي لا بشكل كلي، تعيش لحظتك بجزء واحد وجزء آخر معلق في العقل، فتبتسم ولكن ابتسامتك ليست صافية، بل تكون ابتسامة فاسدة، لأنها تخبئ في باطنها الغضب. تبتسم شفتاك، ولكنهما مسمومتان بالغضب.. هذا لأنك لم تترك الغضب ليرحل عنك بعيدا، لازال الماضي يتواجد في الحاضر، لم تترك الماضي حتى يغادرك. وبهذا لا تكن حرا بشكل كامل.. لا تستطيع أن تتواجد هنا الآن وتعيش لحظتك بكليتها عندما لا تترك الماضي ليرحل في حال سبيله. حينما يرافقك تعيش حاضرك وتتعلق بالماضي الذي يريد الرحيل عنك، ستشعر بالحيرة والاضطراب، ستصبح حياتك عبارة عن مخلفات هنا وهناك تجرجرها أينما كنت. ولن تستطيع أن تعيش وتحيا أي لحظة كانت، سعيدة أم حزينة، حينها لا تستطيع أن تحب! لا تستطيع أن تصلي! لا تستطيع أن تتأمل! لا تستطيع أن تستمع لموسيقى أو شعر! يأتون الناس إليّ قائلين: "عندما نتأمل، تظهر فجأة ألاف من الأفكار، وفي حياتنا اليومية لا تظهر هذه الأفكار، فقط عندما نريد التأمل تتصاعد هذه الأفكار وتظهر، لما يحدث هذا لنا؟" إن الخبرات الغير كاملة، اللحظات التي لم تعشها بكليتها تعيش في باطنك وتختبئ طالما أنت منشغل في شيء ما. والتأمل هو ممارسة اللاعمل، أي أن تتأمل فقط دون عمل معين أو مجهود ما. وبهذا تقفز الخبرات الغير مكتملة إلى السطح. تقفز وتقول لك: "ليس لديك عمل الآن، فابحث عن حل لمشكلتنا نحن الخبرات الغير مكتملة، أكملنا، أتممنا." هذه الخبرات الغير مكتملة لا تخرج إلى السطح إلا في وقت لا يعمل المرء فيه شيء. وهكذا ستجد أن الغضب يظهر على السطح، والحل يظهر على السطح.. ومن هنا يجب أن تكمله. رغبة ما تظهر على السطح، ابحث عن حل لها. عندما تكون منشغل في شيء ما، ستظهر لك هذه الأمور، ولكنها لا تثير اهتمامك لأنك تركز على ما تقوم به، ولكن في حالة التأمل فإنهم يحاولون أن يظهروا أمامك ويشدوا انتباهك لأنك خالي من المشاغل، تظهر وتقول لك: "نحن أعمال غير متممة، أتمنا" هؤلاء هم أشباح من ماضيك. عش كل لحظة بتمامها بوعي كلي، عش كل لحظة بوعي بحيث ألا تحمل الماضي إلى الحاضر. وهذا عمل سهل جدا، فقط تحتاج إلى قليل من الوعي لتنجح به، ولا تحتاج لأمر آخر أبدا. لا تمضي حياتك وأنت نائم كالرجل الآلي، بل عش وأنت حي يقظ. وعندها سترى الحياة بشكل مختلف. عندها ستصبح ناعما كالطفل، طريا كالبراعم الجديدة. هذه النوعية من الحياة يمكن أن تحملها معك إلى آخر لحظة من حياتك، ستبقى طرية مليئة بالحيوية. وإن بقيت طريا حيويا مليء بالشباب، فإن الموت لن يحدث لك لأنك تحمل الحياة فيك. الناس الذين عاشوا كالموتى هم من يموتون، والناس الذي اختبروا الحياة بوعي هم من يراقبون ويعاينون الموت كيف يحدث لهم.. يراقبون كيف للموت يأكل الجسد، كيف الموت يداعب العقل.. ولكن لن يقترب منهم الموت لأنهم هم من يشهدون على تلك الأمور، سيبقون خارج الموت، يخترقون الموت ويصلون.[9] عندما يكون الجيش جامح مندفع، سيخسر الحرب. يبدو "لاوتزو" غير منطقي، حيث يقول: أن الجيش القوي هو من يخسر الحرب، ونحن نؤمن أن القوي هو من يفوز! عندما تكون الشجرة صلبة قاسية سوف تقطع. الكبير والصلب ينتمي لأدنى قسم من الشجرة، بينما الرقيق اللطيف ينتمي لقمة الشجرة. الجذور جامدة وقاسية، تنتمي للأرض، للأسفل، بينما الوردة لينة يافعة، تنتمي للقمة، للسماء. هذه التركيبة الصحيحة لمجتمع صحي؛ اذا كان الناس الأقوياء ينتمون للجذور، والناس الرقيقين ينتمون للقمة، الشعراء والرسامون، والحكماء يجب أن ينتموا للقمة، أي لأعلى المجتمع. بينما الجنود، السياسيون، رجال الأعمال يجب أن ينتموا لأسفل المجتمع، وليس للقمة. ولكن العالم أصبح في فوضى عارمة، لأن الناس القاسيين الصلبين يحاولوا دائما أن يكونوا في القمة. وكأنهم يقلبون الوردة تاجها على جذورها وجذورها على تاجها! كانت الأمور متوازنة في الماضي، فمثلا كان في الهند البراهميين ينتمون لأعلى المجتمع. البراهمي هو حكيم، اسمهم يعني أنهم من عرفوا براهما.[10] هذا لم يكن تصنيف طبقي اجتماعي، وليس لها علاقة بالمولد والنسب. هؤلاء من عرفوا المطلق عبر تأملاتهم الباطنية هم البراهماتيين. هم من كانوا ينتمون لقمة المجتمع، كانوا كتيجان الأزهار.. حتى الملوك والأباطرة العظام كان عليهم أن يأتوا لهم وينحنوا على أقدامهم. كانوا الملوك يقفون دائما عند أبواب البراهميين. كانت هذه هي الطريقة الصحيحة للمجتمع. مهما طالت وقويت عظمة الملك، إنما يبقى مجرد ملك وانسان مصاب بمرض نفسي لاهثا خلف الدنيا وخلف الطموح الدنيوية والأنا، لذا عليه أن ينحني. حدث مرة أن بوذا كان قادما إلى بلدة ما، وملك تلك البلدة كان متردد قليلا للذهاب لاستقباله. كان رئيس وزراءه كبير في السن ولديه الحكمة، حيث قال للملك: عليك أن تذهب إلى بوذا وتستقبله. فأجابه الملك: يبدو أن هذا غير ضروري، إن بوذا ما هو إلا متسول، دعه يأتي إليّ! ما الهدف من ذهابي له إلى حدود مملكتي لاستقبله، أنا هو الملك وهو الشحاذ الفقير". قدم رئيس الوزراء استقالته على الفور، وقال له: اقبل استقالتي لأنك سقطت إلى هذه الطبقة الدنيّة، لن أستطيع أن أعمل لأجلك، يجب أن تتذكر أنك ملك، وبوذا قد هجر المُلك.[11] نعم لا يملك الآن شيء، ولهذا ينتمي للقمة، عليك أن تنحني أمامه، وإلا يجب عليك أن تقبل استقالتي، لا يمكنني أن أبقى في المكان نفسه الذي تتواجد فيه أنت، من المستحيل أن يحدث هذا. وبهذا كان على الملك أن يذهب لاستقبال بوذا. عندما انحنى الملك، قال له بوذا: لا حاجة لذلك، لقد سمعت بأنك كنت متردد في القدوم لاستقبالي هنا، ليس هناك حاجة لذلك، لأن الفرد الذي يتردد، حتى لو حقق ما كان متردد لأجله، كأنه لم يأت أبدا، كما أن الاحترام لا يمكن فرضه. إما أن تفهم أو الا تفهم. لم يكن بحاجة لانحنائك واستقبالك، كنت قادماً بنفسي لرؤيتك. أنا متسول.. وأنت امبراطور" وبهذه اللحظة، بدأ الملك بالبكاء والنحيب، لأنه فهم الدرس من ذلك. في الشرق، كان البراهيمي في القمة. لأنها كانت هي التركيبة الصحيحة للمجتمع الصحي. إنما الآن في كل العالم، السياسيون هم من وصلوا إلى القمة، وبهذا خلقت المآسي والفوضى. ومن الطبيعي أن تحدث المآسي والفوضى، لأن الطرف الأعلى صار ثقيل أثقل من القاعدة. الأزهار الرقيقة اللطيفة هي من يجب أن تكون في القمة.[12] الحكماء الباحثين عن الله، العابدين والشعراء والمستنيرون. الكبير والصلب ينتمي لأدنى قسم من الشجرة، بينما الرقيق اللطيف ينتمي لقمة الشجرة. يقول "لاوتزو" إن أردت أن تنتمي للصفوة، للقمة، كن رقيقا ناعما وضعيفا، كن ضعيفا جدا ورقيقا جدا.. ولا تكن قوي كجذور وجذوع الأشجار. لدى "لاوتزو" اهتمام عميق في كل شيء ليس له فائدة. ويدعوا الا تكون منك فائدة أو جدوى، يحذر جدا من أن تكون للمرء فائدة ما، لأنه لو كنت مفيدا فإن أحد ما سيأتي ليستغلك ويستعملك ويبتزك. إن كنت قوي كفاية ذو فائدة ما، فإنك ستدخل إلى الجيش. مرّ "لاوتزو" وأتباعه يوما على قرية، ورأى رجل أحدب، قال لأتباعه: "اذهبوا إلى الأحدب هذا واسألوه عن حاله، لأنني سمعت بأنه يواجه مشكلة ما، لأن ملك هذه القرية قد أجبر كل الشباب والرجال الأقوياء على الانضمام للجيش" ذهبوا إلى الأحدب وسألوه. فأجابهم: أنا سعيد! سعيد بسبب مظهري، لأنهم لم يجبروني على الانضمام للجيش، فأنا عديم الفائدة. وهكذا أعيش بأمان هنا" فحدثهم "لاوتزو" بعد ذلك: الأن يجب أن تتذكروا بأن تكونوا غير ذي فائدة، وإلا ستصبحوا علف للماشية في الحرب". وفي يوم آخر، كان "لاوتزو" وأتباعه عابرين خلال الغابة، ومروا تحت شجرة ضخمة. كانت ضخمة جدا، حيث أن ظلها يسع لعربة مكونة من ألف ثور، للاستراحة تحته. كانت الغابة مقطوعة أشجارها إلا هذه الشجرة الضخمة، فطلب "لاوتزو" من أتباعه ان يسألوا عما حدث، ولما لم تقطع هذه الشجرة العملاقة كباقي الأشجار؟ ذهبوا الأتباع وسألوا النجار، حيث أجابهم: هذه الشجرة عديمة الفائدة كليا، فالأغصان ليست مستقيمة، لا يمكنك أن تصنع أثاث منها. وعندما تحرقها، ينبعث منها الكثير من الدخان، بحيث لا يمكن استخدامها كوقود للتدفئة، وأوراقها مرة جدا بحيث حتى أن الحيوانات غير مستعدة لأكلها. لهذا فهي عديمة الفائدة، فلم نقطعها ولن نقطعها" بدأ "لاوتزو" بالضحك، وقال لأتباعه كونوا كتلك الشجرة، عديمي الفائدة، عندها لن يأتي أحد ليقطعكم، انظروا إلى هذه الشجرة كيف صارت عملاقة ومفيدة في ظلها، لم تصبح هكذا إلا لأنها ليست مفيدة في شيء آخر. يمكن أن ننظر للحياة بطريقتين. يمكن النظر إليها كهدف منفعي؛ شيء يستخدم شيء آخر، وهنا تصبح الحياة عبارة عن وسيلة يستخدم كل منهما الأخرى، من أجل غاية ما. أو أن ننظر للحياة وكأنها احتفال مليء بالمتعة، وليس كأداة. وهنا تصبح كل لحظة مهمة بحد ذاتها بدون أي غاية أو هدف ما في المستقبل. كنت أقرأ قصيدة في الأمس، وقد صعقت حتى النخاع من بيت منها، حيث يقول: "القصيدة يجب ألا تُعنى، بل أن تكون"[13] لقد أحببت هذا البيت. لا يجب أن يكون للحياة معنى، بل يجب أن تحيى الحياة. فلا غاية ولا هدف منها.. الهدف الوحيد هو أن تستمتع بهذه اللحظة هنا، الآن.. أن تحتفل هنا، الآن. عندها يمكنك أن تصبح لينا طريا مفعم بالحياة والحيوية. عندما تحاول أن تبحث عن فائدة أو غاية أو هدف ما، تصبح صلبا قاسيا. إذا حاولت تحقيق شيء ما، ستقاتل، ستصبح قاسي.. استسلم.. كن لينا وطريا. اسمح للحياة أن تتدفق فيك.. اسمح لها أن تأخذك إلى حيث تريد.. اسمح أن يكون هدفك هو هدف الله. أن يكون هدفك هو هدف الوجود. لا تبحث عن أي هدف خاص بك.. كن جزء من الكل.. ستحصل على جمال وسمو منقطع النظير. حاول أن تشعر به، وأن تسمع ما يقوله.. لا يتعلق الأمر فيما لو فهمته أو لم تفهمه، لا يتعلق الأمر بذكائك أو بقدرتك العقلية أو اللغوية.. اشعر به، اسمع ما يقوله، واجعله دائما معك. اسمح لهذه العبارة أن تدخل في أعماقك وتستقر فيها: الحياة لا تكمن بمعانيها وشرحها، بل الحياة في أن تحياها وتتذوقها. فجأة ستصبح ناعما معها، وتذهب كل الصلابة بعيدا عنك. يمكن لك أن تعيد اكتشاف الطفل الذي يكمن في داخلك، وستغدو طفلا مرة أخرى. يمكنك أن تنظر إلى السماء، وستبدو أكثر زرقتا فيما مضى، والأشجار تبدوا أكثر حيوية واخضرار مما مضى. جميع التغريدات والأغاني ستبدو مختلفة وجميلة أكثر مما مضى، ستصبح لها دلالات وإشارات، ولها علاقة بالحب والنعيم. استمتع بالحياة، وستكون طريا، انهمر مع النهر.. فتكون أنت النهر نفسه. [1] الدين هذا نجده يتماشى مع العقل العصري الذي يحسب ويفكر برصيد البنك والبورصة والتجارة، الذي يفكر في استراتيجية الحرب واقتصاد الدولة والعلاقات السياسية.. نجد الطريق واحد أو المنهج واحد؛ حيث المبدأ هو المقاومة وعدم الرضا عن النفس والواقع ومحاولة تطويره وتغييره. هذا هو مبدأ حياتها بشكل عامل. بينما ما يتحدث عنه أوشو فهو عكس ذلك تماما، كما نقرأ في هذه الصفحات. [2] George Gurdjieff: (1872?-1912) معلم روحاني من أرمينيا. وقد صنف من أفضل الشخصيات الروحانية في القرن العشرون إلى جانب أوشو. [3] انتبه هنا إلى أن التديّن الذي يتحدث عنه هو التدين الطبيعي الذي يكون الجزء مع الكل، بأن لا يختلف المرء مع الطبيعة.. لأن قانون الله هو قانون الطبيعة، وما يشذ عن الطبيعة فهو ليس بقانون الله. لهذا العلم لا يتناقض مع الدين الحقيقي. ويجب أن تنتبه لأمر آخر، هو أن يكون المرء جزء ينساب مع الكل لا يعني أن ينساب المرء مع المجتمع، إذ سبق وأشار أوشو أن من يخرج من مصيدة المجتمع والروتين اليومي للحياة هم ما يسمون بالأولياء أو المستنيرين.. فشذوهم كان شذوذ عن الأمور الاجتماعية المزيفة التي ليس لها صلة مع الطبيعة، والقوانين الاجتماعية صنعت من عقل الإنسان، كما هي حالة الغنى والفقر أو المركز الاجتماعي والسياسي.. بينما شذوذ المرء عن الطبيعة يعني أن يشذ الجزء عن الكل، أي أن يشذ عن قوانين الطبيعة التي وضعها الله، وهذا الدين الحقيقي الذي يتحدث عنه لاوتزو ويشير إليه أوشو. [4] الكينونة أو الصيرورة التي تشير لها الترجمات المختلفة تشيرإلى الفعل "كن"، وترجمتها في الانجليزية هي "TO BE" أي أن يصبح الشيء على شاكلة ما، والكينونة هي "BEING". وهذا ما يذكرنا بالآية حيث يقول تعالى في سورة يس 82 ((إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)) وتكون ترجمتها الانجليزية: ((His command is only when he intends a thing that he says to it, "BE' and it is)) [5] Pathological way [6] الكل هنا يشير إلى الكون أو المشيئة الإلهية، ولا يعني الكل، بالمجتمع. [7] Sutra: هي كملة سانسكريتية، تشير إلى عبارة من العبارات أو الجمل أو النصوص المأثورة في البوذية والهندوسية. وحرفيا تعني الخيط أو الاشارة أو الجذر الذي يربط الأمور في بعضها لمزيد من الفهم. (موسوعة ويكبيديا) [8] Leibniz [9] دائما ما نردد بأن النوم موت أصغر والموت نوم أكبر.. وهناك من يحيا حياته وهو يراقب نفسه بوعي ويعش بوعي في كل لحظة يمكنه أن ينام "الموت الأصغر" ويدرك في الوقت ذاته بأنه نائم وبأنه يحلم الآن.. يدرك بأن جسده نائم ولكنه يقظ حي.. وهكذا يمكن للشخص الميت أن يراقب الموت وهو يقترب منه. ولهذا شدد بعض المشايخ على أهمية حال المرء في لحظة الموت لأنه سيبعث يوم القيامة على حاله وقت وفاته. لأن الوعي سيرافق الإنسان إلى الحياة الأخرى. [10] براهما هو الخالق أو المطلق في الديانة البرهمية في الهند. [11] ولد بوذا عام 564 قبل الميلاد، في بلاط ملكي، وقد غادر أسرته وطبقته وزوجته مع ولدهما الأول وهام وجهه قاصداً الغابات في جبال الهملايا ليحيا هناك مع رهبان الهندوسية حياة قاسية لا تحفل بمطالب البدن، وكان يكتفي من الطعام ببعض حبيبات تحفظ له الحياة حتى نحل بدنه وساءت حالته البدنية، وكان مع هذا النظام المعيشي يعيش حياة تفكر وتأمل وبحث عن الحقيقة. تلك الحقيقة التي تسعف الانسان كي يتخلص من الآلام والمعاناة. (موسوعة الأديان الميسرة، دار النفائس) [12] وبهذا يمكن الاشارة إلى الحركة الأدبية النسوية التي صارت تظهر وتنتشر هذه الأيام، والتي تشير دائما وتبحث عن دلالات في الآداب والأثريات عن فترة الحكم النسوي التي تنتمي إلى فترة ما قبل التاريخ المكتوب، حيث تقول الكتب التي تحدثت عن هذا الموضوع، ككتاب (الكأس المقدسة وحد السكين) لريان إيسلر: بأن النساء، الاتي لديهن لطافة وحس شاعري واحساس جمالي، هن من كن يدرن المجتمع في الماضي، قبل حوالي عشرة آلاف سنة، وبهذه التركيبة الاجتماعية، اوشو يشير إلى طاقة الأنثى التي يجب أن تكون قمة المجتمع، طاقة الأنثى هي الاستنارة، الفن، العبادة.. بينما القوة في الأسفل. حيث تقول الكتب أن تلك الفترة كانت المجتمع متساوي وكانت الحياة وثيرة، لا حروب فيها ولا صراعات، حيث كانت الأنثى هي في قمة المجمع، من حيث الطبقة الاجتماعية والثيولوجيا أيضا. كانت الآلهة نساء وليس رجال. ويشير البعض أن هذه الفترة كانت هي الفترة التي تسبق زمن النبي سليمان وملكة سبا، حيث أن فترة ملكة سبأ هي الفترة المتأخرة من العصر النسوي. [13] تعود القصيدة إلى الشاعر Archibald MacLeish 1892–1982، يقصد الشاعر فيها بأن جمال القصيدة الحقيقي، ومعانيها الحقيقية لا تكمن في رسم ونظم الكلمات ومعاني الالفاظ والبلاغة، بل تكمن في احساس الشاعر أو القارء من تلك القصيدة حتى لو لم يفهم القصيدة. من قصيدة "Ars Poetica".
osho
| |||||||||
|