|
|||||||||
> الصفحة الرئيسية - الحكمة - الحكيم أوشو |
|||||||||
ابدأ من حيث انت
الحياة بحث، بحث دائم ومستمر، بحث مستميت ويائس.. بحث عن شيء لا يعرف المرء ما هو. نجد الحاح عميق للبحث، ولكن لا يعرف المرء عما يبحث. وهناك حالة ما في العقل، فمهما يحصل عليه لن يعطيك الرضا. ويبقى الحنق كأنه مقدر للإنسان أن يعيشه، فكل ما تحصل عليه يصبح خاليا من المعنى بعدما تحصل عليه.. فتبدأ بالبحث مرة أخرى عن شيء آخر. إن البحث يستمر سواء حصلت على شيء أم لم تحصل عليه. سواء قبلت بما حصلت عليه أو لم تقبل، البحث سيستمر على أي حال. الفقير يبحث، والغني يبحث، والمريض يبحث، والقوي يبحث، والذي لا قوة له ولا سلطة يبحث أيضا، الأغبياء يبحثون والحكماء يبحثون.. ولا أحد يعلم بالتحديد ما الذي يبحثون عنه، وعما يبحثون. ماهو هذا البحث؟ ولماذا يتواجد معنا؟ إن عملية البحث بحد ذاتها يجب أن تُفهم. يبدو أن هناك فجوة في التكوين الإنساني، في العقل الانساني، في تركيبته. الوعي نفسه فيه فجوة ما، فجوة سوداء. تستمر في رمي الأشياء داخلها، ولكنها لا تمتلئ، ترمي الأشياء التي تحصل عليها، وتختفي الاشياء تلك حالما تدخل تلك الفجوة. لا شيء يجعل هذه الفجوة تمتلئ. لا شيء يساعد نحو الاكتفاء والرضا. تستمر في عملية البحث في هذا العالم وتبحث أيضا في العالم الآخر، أحيانا تبحث في المال وفي السلطة وفي البروستيج، وأحيانا تبحث في الله، وفي الرحمة، وفي الحب والتأمل والصلاة.. لكن البحث يستمر.. ويبدو الإنسان وكأنه مريض بـ"داء البحث". البحث لا يسمح لك أن تكون هنا الآن، لأن البحث دائما يأخذك إلى مكان آخر. البحث عن عرض ما، هو رغبة، إنه موجود بسبب الفكرة التي تقول بأن ما تبحث عنه موجود في مكان آخر، في زمن أخر.. ما تبحث عنه موجود، ولكنه موجود في مكان أخر، ليس هنا حيث أنت تقف، بل هناك حيث أنت لم تصل. إنه موجود بالتأكيد ولكن ليس بهذه اللحظة، ليس الآن ولكن في مكان آخر. ولهذا يبدأ "داء البحث" بالإلحاح عليك، يستمر في سحبك من مكان إلى آخر، يستمر في دفعك من كان على آخر، يستمر في رميك إلى الجنون أكثر وأكثر.. ولا يجعلك تكتفي أبدا. سمعت قصة عن متدينة صوفية، هي رابعة العدوية: في مساء أحد الأيام، والشمس تغيب، كان هناك القليل من الضوء في الطريق. وجد الناس رابعة جالسة على الطريق تبحث عن شيء ما. كانت امرأة عجوز، وعيناها كانتا ضعيفتان، كانت تنظر بصعوبة. لذا أتى إليها الجيران لمساعدتها. سألوها: "عما تبحثين؟" قالت رابعة: "هذا السؤال غير صحيح.. أنا أبحث وإن استطعتم مساعدتي فساعدوني." ضحكوا وقالوا: "يا رابعة، هل جننت؟ أنت تقولين إن سؤالنا غير مقبول، ولكن إن كنت لا تعرفين عما تبحثين، فكيف نستطيع أن نقدم المساعدة؟" قالت رابعة: "حسنا –لأرضيكم فقط- أنا أبحث عن إبرة، لقد فقدت إبرتي." بدأوا بالمساعدة، ولكن فورا أدركوا أن الطريق كبير والإبرة شيء صغير جدا. لذا سألوها: "أرجوك قولي لنا أين فقدتها بالضبط، حددي لنا المكان، لأن من الصعب أن نجدها فالطريق طويل جدا. ويمكن أن نبحث عن الإبرة للأبد.. أين فقدتها بالتحديد؟" قالت رابعة: حسنا –لأرضيكم فقط- أنا فقدتها في المنزل. تعبوا: "فلماذا تبحثين هنا؟" وقد نقل عن رابعا أنها قالت: "لأن هنا على الطريق يوجد نور، وداخل المنزل لا يوجد نور" هذا الحديث له دلاله ومؤثر فعلا. هل سألت نفسك عما تبحث؟ هل حدث وجعلتها نقطة تنطلق منها للتأمل لتعرف عما تبحث؟ لا، حتى في لحظة الغموض، لحظات الحلم، لديك بعض اللمحات، بعض الإشارات التي تشير إلى ما تبحث. لكنها ليست دقيقة وكافية، فحتى هذه اللحظة لم تصل إلى تعريف واضح عما تبحث عنه. فإذن حاول تعريفه، لأن كلما عُرّف الشيء، كلما قلت حاجتك للبحث عنه. البحث ممكن له أن يستمر في حالة كان بها الشيء غامضا. البحث يستمر حينما تكون الأمور غير واضحة، ولهذا تستمر بالبحث، مشدود برغبة داخلية، مسحوب نحو الشيء.. بسبب الحالة الداخلية الطارئة. شيء واحد تعرفه: بأنه يجب عليك أن تبحث. هذه هي الحاجة الداخلية للبحث، ولكنك لا تعرف عما تبحث، وإن لم تعرف عما تبحث، فكيف ستجده؟ إنه شيء غامض، تعتقد أنه موجود في المال، أو السلطة أو البروستيج أو الاحترام.. ولكنك ترى الناس المحترمين، ذو النفوذ يجوبون في حالة من البحث وشعور من النقص.. هم أيضا يبحثون كما تبحث أنت. وكذلك ترى الناس ذو الثراء الفاحش، يجوبون في حالة من البحث.. يبحثون ويبحثون إلى آخر يوم في حياتهم. فإذن الغِنى لن ينفع، والسلطة لن تنفع.. البحث يستمر على الرغم مما تملك. يجب أن يكون البحث عن شيء آخر، هذه الأسماء والملصقات التي يتم تعليقها على الأشخاص: المال، السلطة، الوجاهة.. إنها فقط عناوين ترضي العقل. إنها فقط تساعدك لتشعر بأنك تبحث عن شيء ما. هذا الشيء باقٍ ولا زال لم يُعرف.. شعور غامض جدا. إن أول الأمور مهمة للباحث الحقيقي (الباحث الذي أصبح واعيا قليلا ويقظا) من المهم له أن يُعرّف البحث، أن يكون لديه فكرة واضحة عما هو "البحث".. عليه أن يجلبه من مستوى ووعي الحلم، إلى مستوى الوعي العميق، فينظر له مباشره، أن يواجهه ويقف وجها لوجه امامه. وفي هذه اللحظة تحول ما يبدأ بالحدوث. إذا بدأ "البحث" تتوضح صورته، ستبدأ تفقد اهتمامك فيه. كلما حددت هوية البحث، كلما تلاشى من الوجود. بمجرد أن تعرفه بصورة واضحة، فجأة يختفي.. إنه يتواجد فقط حينما لا تنتبه له، حينما يكون في اللاوعي، وحالما تسلط عليه ضوء الوعي، يموت فجأة. كرر هذه الجملة: يتواجد البحث فقط عندما اكون نائما. البحث يتواجد فقط عندما تكون غافل، البحث يتواجد فقط في حالة اللاوعي.. اللاوعي يخلق حالة البحث هذه. نعم، رابعة على حق. في الداخل لا يوجد نور، وحيث أنه لا يوجد نور ولا وعي في الداخل فإنها ستستمر بالبحث في الخارج، لأن في الخارج يبدو أن العملية أسهل وأكثر وضوحا. حواسنا خارجية، العين تفتح على الخارج. اليد تتحرك وتنتشر في الخارج. الأرجل تتحرك في الخارج، والأذن تسمع الأصوات الخارجية والإزعاج. كل ما هو متاح لك مفتوح للخارج. كل حواسنا الخمس خارجية، ولهذا تبدأ بالبحث هناك، حتى ترى، تشعر، تلمس، تتذوق.. نور الحواس الخمسة موجود في الخارج، إنما الباحث يتواجد في الداخل. هذه التقسيمة يجب أن يتم فهمها. الباحث يتواجد في الداخل. ولكن لأن النور في الخارج. يبدأ يتحرك الباحث طامحا، محاولا إيجاد ما يبحث عنه في الخارج، ظانا أنه سيرضيه ويكمّله. ولن يحدث هذا أبدا. لا يمكن لهذا أن يحدث بطبيعة الأشياء.. إن لم تبحث عن الباحث بذاته، فإن جميع تلك الأمور لا معنى لها. إذا لم تصل لمعرفة من أنت، من تكون؟ فإن كل عملية البحث ستكون فاشلة، لأنك لم تعرف من هو الباحث. من دون معرفة الباحث، فكيف لك أن تسير في الطريق الصحيح، في الاتجاه الصحيح؟ مستحيل. هذه هي النقطة الاولى التي يجب أن توضع بعين الاعتبار. اذن ما يهم الآن هو أمرين: الأول أن تعرف ما تبحث عنه بشكل واضح جدا، ما هي مادتك وما هو موضوعك، فلا تذهب تتخبط في الظلام. وركز اهتمامك على مادة بحثك، عما تبحث حقاً؟ لأننا نريد شيء ما ونذهب لنبحث عن شيء آخر.. لهذا ننجح بالحصول على شيء ولكن ما نحصل عليه ليس هو ما نبحث عنه. فهل رأيت الناس الناجحون؟ هل تستطيع أن تجد فشل أعظم من ذلك؟ لقد سمعت بالمثل القائل "لا شيء ينجح كما النجاح" إنه مثل خاطئ، بل أود أن أقول "لا شيء يفشل كما النجاح" ولابد أن هذا المثل أخترع من قبل أناس أغبياء.. أنا أكرر بأن لا شيء يسقط كما النجاح. لقد قيل عن ألكسندر العظيم إنه في اليوم الذي أصبح فيه هازم العالم ومالك له، أغلق أبواب غرفته وبدأ بالنواح.. لا أدري إن حد هذا الشيء أم لا، ولكن إن حدث ذلك، فيكون الاسكندر في غاية الذكاء.. لقد اضطرب الجنرالات الذين كانوا معه: ما الذي قد حدث؟ لم يجدوا الكسندر العظيم ينوح أبدا.. لم يكن من هذا النوع من الرجال، لقد كان محاربا عظيما، وجدوه يخوض ويخرج من المآزق والصعوبات الشديدة، في حالات كثيرة واجه مخاطر كثيرة، حيث الموت كان وشيكاً، ولم يشاهدوا دمعة واحدة من عينيه. لم يجدوه بائسا في أي لحظة من لحظات حياتهم معه. فما الذي حدث الآن؟ عندما نجح! عندما أصبح هازم العالم؟ دقوا الباب، دخلوا، وسألوه.. ما الذي حدث معك؟ لماذا تبكي كالطفل الصغير؟ قال: الآن وقد نجحت.. عرفت الفشل أيضاً. لقد أدركت في هذه اللحظة بأنني لا زلت أقف في المكان الذي كنت أقف فيه قبل أن أبدأ بكل هذا الهراء، حينما تغلبت على العالم وهزمته. لقد أدركت بأن لا يوجد عالم ثاني لأهزمه، وإلا لاستمريت في رحلتي لأهزم مكان آخر، عالم آخر.. والآن لا يوجد عالم آخر لأهزمه. لا يوجد شيء آخر لأفعله، بل سأجلس مع نفسي هكذا. الرجل الناجح دائما يجلس مع نفسه بالنهاية، وعندها سيعاني من عذاب جهنم، لأنه أضاع كل حياته، بحث وبحث، خاطر بكل شيء يملكه. حقق النجاح الخارجي، ولازال قلبه خاليا وروحه لا معنى لها ولا عطر ولا بهجة. لذا، أول الأمور مهمة ها هنا هو أن تعرف بالضبط ما الذي تبحث عنه. وأنا مصر على أن تعرف ما الذي تبحث عنه، فكلما ركزت بناظرك على شيء ما عندما تبحث عنه، كلما بدأ هذا الشيء بالاختفاء. عندما تكون عيناك ثابتتين تماما، فسيختفي ما تبحث عنه فجأة، فستتجهان عيناك ناحيتك.. عندما لا يكون هناك مادة للبحث عنها، عندما تختفي كل المواد، يحيط بك الفضاء والخلو والفراغ.. لذا الفراغ هو ما يجلب لك التحول..عندها تعي ما بالداخل.. تنظر فجأة لنفسك. في تلك اللحظة تدرك أن لا يوجد ما تبحث عنه خارجا. وعندها تولد عندك رغبة جديدة، رغبة التعرف على هذا الباحث.[1] اذا توافر لك ما تبحث عنه خارجا، فأنت رجل دنيا، إما أذا لم يتوافر لك ما تبحث عنه خارجا، واختفت جميع الأشياء.. عندها يمكنك أن تسأل: عمن يكون هذا الباحث؟ من هو هذا الباحث؟ والآن يصبح من المهم لك أن تتعرف على نفسك. بهذه الطريقة يمكن لي أن أعرف رجل الدنيا ورجل الدين. إذا لازلت حتى الآن تبحث عن شيء ما، قد يكون هذا الشيء في الحياة الأخرى، أو في هذه الحياة، قد يكون في الجنة، الفردوس.. هذا لا يهم، لا يشكل فرق.. تظل لا زلت في خانة رجال الدنيا، حتى لو كنت تبحث عن شيء ما يتعلق بالآخرة، كالجنة مثلاً. إذا توقفت جميع الأمور التي كنت تبحث عنها واختفت من أمامك، وفجأة صرت مهتما لتتعرف على هذا الكائن الباحث الباطني فيك، ما هي الطاقة التي تدفعك للبحث؟ من أنت؟ عندها تكون لحظة التحول، وكل القيم التي تعرفها تتغير.. ويبدأ اهتمامك يتوجه نحو الداخل، نحو الباطن.. وعندها لن تجلس رابعة مرة أخرى على الطريق لتبحث عن الابرة التي فقدتها في مكان ما داخل المنزل المظلم.. داخل ظلمة روحها. عندما تبدأ تتجه نحو الداخل، ستجد أن الظلمة شديدة. إن رابعة محقة نحو الظلام الشديد داخل المنزل، وذلك بسبب العديد من الحيوات التي حييتها دون أن تدخل نحو الداخل، كانت حواسك متجه تنحو الخارج، نحو العالم الخارجي. هل شعرت مرة بظلام المنزل، حينما تعود من رحلة قضيتها خارج المنزل حيث الشمس ساطعة في الخارج، عندما تدخل البيت فتشعر فجأة بظلمة شديدة . إن العينين مركزة وبشدة على الضوء الخارجي، وعندما يكون هناك ضوء شديد ساطع أمام العين، فالبؤبؤ يتقلص. أما في الظلام فالبؤبؤ يسترخي ويتوسع أكثر. في الظلام فتحة البؤبؤ أكبر، أما في النهار ففتحة البؤبؤ أصغر. وهكذا هي الكاميرا. والكاميرا تشبه العين في عملها لتوضّح الصورة. لذا عندما تدخل فجأة المنزل بعد رحلتك في الخارج، يبدو المنزل مظلم بشدة، ولكن إن جلست لفترة، فإن الظلمة تختفي شيئا فشيئا ويزيد النور، وعينك تستقر وقد تستطيع أن تنظر وتعرف ما يوجد في الداخل. لحيوات عديدة كنت تعيش تحت الضوء الساطع الخارجي، لهذا عندما تحاول أن تدخل إلى باطنك تكون قد نسيت كيف الوصول إلى الداخل، وكيف توازن نظرك مرة أخرى. والتأمل ليس إلا إعادة استعادة الرؤية في الظلام، واعادة تنظيم عمل البؤبؤ، واعادة هيكلة النظر والرؤية. في الهند نسمي هذه بالعين الثالثة، إنها ليست عين فعلية في مكان ما، إنه أعادة توازن لرؤيتك، لتتآلف وتتوافق وتتكيف مع الظلام. شيئا فشيئا يدنو الظلام ولا يعد بعد ذلك مظلم. بل وتبدأ تشعر بأن نور ما بدأ يشرق من الداخل، وكأنه نور كهربائي غامض.. وإذا استمريت بالنظر للداخل –مع الوقت- تدريجيا وببطئ ستشعر بأضواء جميلة تشع من باطنك. هذه الأضواء ليست هجومية شديدة شرسة كضوء الشمس عند الظهيرة، بل أنوار أشبه بالقمر، ضوء لا يكسر العين ولا يزغل النظر، إنه ضوء بارد وحنون ولطيف، إنه مريح كمن يربت على كتفك بحنان. إنه كراحة يد المعلم المستنير. شيئا فشيئا عندما تكون قد تآلفت مع الضوء، ستجد أنك المصدر لهذا الضوء. الباحث هو مادة البحث. عندها سترى أن الكنز منك وفيك. وكل المشكلة هي أنك كنت تبحث عن هذا في الخارج، كنت تبحث عن هذا في مكان آخر بالخارج، إنما هو موجود في داخلك. إن هذا كل ما في الأمر. كل شيء متوفر لك، بقدر ما هو متوفر لأي شخص آخر، كما هو القدر الذي وفر الكثير لبوذا، لموسى، لمحمد، لبال شيم[2].. إنه متوفر لك أيضا. كل المشكلة إنك كنت تنظر إلى الجهة الخاطئة. وبما يخص اهتمامنا بالكنز، فنحن لسنا فقراء.. الواحد منا ليس أفقر من بوذا أو محمد- الله لم يخلق انسان فقيرا- ولا يمكن أن يحدث أن يخلق رجلا فقيرا. لأن الله يخلق الكائنات من أناه الإلهية، فكيف للغني أن يخلق فقيراً؟ أنت نهر الله الذي ينهر، أنت جزء من وجوده، كيف لله أن يخلق رجلا فقيراً؟ أنت غني، غنى بلا حدود، غناك لا حدود له، كما هي الطبيعة. لكنك كنت تنظر بالاتجاه الخاطئ، ولهذا الفرص كانت تفوتك، وهذا لا يعني أنك لن تنجح بحياتك، بل يمكنك النجاح. ولكنك ستظل فاشل، لأن لا شيء سيرضيك في العالم الخارجي، ولا شيء يمكن أن تحصل عليه من العالم الخارجي كما هو العالم الداخلي، لا يمكن المقارنة بين هذا وذاك.. الكنز الحقيقي يوجد هاهنا في الداخل. النور الداخلي، الرحمة الداخلية واللطف الداخلي أيضا. يمكن معرفة النفس عند التناغم الباطني. في الحالة العادية، فإن كل ما تعرفه عن نفسك تستخلصه من رأي الآخرين بك.. يقولون لك: "أنت جيد" فتعتقد أنك جيد. يقولون: "أنت جميل" فتظن أنك جميل. يقولون: "أنت سيء" أو "أنت بشع".. أي ما يقوله الناس عنك، تستمر في جمعه، ومن ثم يكون ذلك هويتك الخاصة. وهذا بالطبع أمر خاطئ، فلا أحد يمكنه أن يعرفك، أو يعرف من أنت غير أن تعرف نفسك بنفسك. إن الآخرين يعرفون جوانب ما، جوانب صناعية من كيانك.. إنهم يعرفون الأمزجة الفورية التي تعيشها وفق المواقف المختلفة، ولكنهم لا يستطيعون اختراقها، لا يمكنهم الوصول إلى جوهرك. حتى لو كان الآخر هو حبيبك، فلا يستطيع أن يخترق ويصل إلى عمق أعماقك. في ذلك العمق البعيد، أنت وحيد، تعيش وحدة تامة، هناك فقط يمكن للمرء أن يعرف نفسه من يكون. الناس يعيشون طوال حياتكم يصدقون ما يقوله الآخرون، يعتمدون على آراء الآخرين، ولهذا تجدهم يخافون من آراء بعضهم البعض. فإذا اعتقد أحدهم بأنك سيء، تصبح سيء. وإذا وبخك، تبدأ أنت بتوبيخ نفسك. إذا قالوا إنك مذنب تبدأ تشعر بالذنب. وذلك ليس إلا لأنك مضطر للاعتماد على آرائهم، وما عليك سوى أن تؤكد وتأيّد أفكارهم. وإلا فسيغيرون آرائهم اتجاهك نحو الأسوأ. مشكلة أخرى قد تظهر أمامك.. بينما يستمر الكثيرون من الناس بتغذية عقلك بمختلف من الآراء المتناقضة –الآراء المتصارعة- لذا ستجد أن هناك ارتباك ما موجود بداخلك. شخص يقول بأنك ذكي، وآخر يقل بأنك غبي، كيف ستقرر هويتك بهذا الموقف؟ لهذا ستجد نفسك مقسوم. سترتاب وتحتار من تكون.. تتأرجح بين المتناقضات والتعقيدات. وهذه التعقيدات كثيرة، لأنك تعيش بين آلاف من الناس. كل يوم تتواصل مع الكثير من الناس، وكل فرد منهم يغذي فكرة ما في عقلك. وليس هناك من يعرفك تماما، حتى أنت لا تعرف نفسك تماما. فإذن كل هذه الأفكار والصور الذهنية عن نفسك تتقاتل في باطنك.. فتخلق حالة من الجنون. ستجد فيك أصوات عديدة.. كلما سألت نفسك: من أنا؟ فإن العديد من الإجابات تحضر أمامك. اجابة ما من أمك، واجابة من أبوك، اجابات عديدة من معلميك.. وهكذا إلى مالا نهاية. من المستحيل أن تقرر أي الاجابات هي الصحيحة، كيف تقرر؟ ما هو المعيار الصحيح؟ وهكذا يضيع الفرد في دوامة الجهل بالذات. لأنك تعتمد على الآخرين، لهذا تخشى الوحدة.. تخشى أن تصل إلى باطنك. لأن في اللحظة التي تصل فيها إلى الوحدة الباطنية، ستبدأ تشعر بالخوف من فقدان نفسك –في الحقيقة أنت لا تملك نفسك أساسا- ولكن أيا كانت "النفس" التي صنعتها من الآخرين وآراءهم، يجب أن تتركها خلفك. لهذا من المرعب ان تترك كل هذا وتنطلق في الوحدة. كلما تعمقت أكثر كلما قل نصيب معرفتك بنفسك. كلما تعمقت في الوحدة كلما جهلت نفسك. وإن كنت في هذا الدرب، درب معرفة النفس، باتجاه الوحدة، قبل أن تتعرف على نفسك، قبل أن تصل على الوحدة عليك برمي كل الأفكار عن نفسك، عليك بالتخلي عن كل الصور الذهنية عن نفسك. ستكون هناك ثغرة، سيكون هناك نوع من اللاشيء.. تصبح أنت اللاشيء. ستكون تائه تماما. لأن كل ما كنت تعرفه من قبل يصبح سراب، لا يمكنك أن تتقبله. وما يمكن أن يكون حقيقة فلم تعرفه بعد. المتدينون المسيحيون الحقيقيون يسمونها "ليلة ظلمة الروح"[3] يجب أن يمر بها كل انسان. وبمجرد تخطيها، يبزغ الفجر، والشمس تشرق. ولأول مرة يقف المرء أمام نفسه، أما شعاع الشمس، وسيرى أن كل شيء كافيٍ وصافً ومكتمل. سيسمع تغريد العصافير لأول مرة! [1] تذكرني هذه السطور بقصة النبي ابراهيم، عندما كان يبحث عن الجمال المطلق والإله المطلق الذي لا يختفي في النهار ولا يتغير اوجهه في الليل.. فأدرك بأن ما يبحث عنه هو الله، وان الله ليس هذه النجوم ولا القمر ولا الشمس، بل هو الله أكبر الذي خلق السماوات والأرض. كأن هذه القصة تبدو حوارا داخليا في نفس النبي ابراهيم، وأخذ يتحول من طبقه إلى أعلى في مراتب الوعي. وهكذا يكون التفكر. [2] Baal-shem/بعل شيم توف (1689-1760): حاخام يهودي صوفي، مؤسس حركة الحاسيديم. (موسوعة ويكبيديا) [3] The dark night of the soul
osho
| |||||||||
|