أحاط شعب
مملكة صادق بقصر الملك، وراحت الجماهير تصرخ ثائرة عليه، فنزل
هذا من
علياء
قصره،
وقد حمل تاجه بيد، وصولجانه باليد الأخرى، واستحوذ على
الجماهير حين أبصرته صمتٌ مَهيبٌ وقور ووقف أمامهم وقال:
"أيها
الأصدقاء!
لستم بعد الآن رعاياي فها أنا أتخلّى عن تاجي وصولجاني لكم،
وبودّي أن أكون واحداً منكم. لست سوى رجلٍ عادي، غير أني أودّ
كرجل، أن أعمل معكم، ونجهد جميعاً في أن يكون حظنا أوفى وأجمل
وأحسن. لا حاجة إلى ملك!
فلنذهب إذن إلى الحقول والكروم ونشتغل يداً بيد. كلّ ما أريد
منكم أن تدلوني على الحقل أو الكرم الذي ينبغي لي أن أذهب إليه،
فكلّ واحد منكم الآن ملك!"
وعجب
الناس،
وخيّم عليهم الهدوء، فالملك الذي حسبوه مصدر بلائهم، تخلّى
الآن عن تاجه وصولجانه وسلّمهما لهم، وأًبح كأيّ واحدٍ منهم.
ثم ذهب كل منهم
في سبيله، ومشى الملك مع أحدهم إلى بعض الحقول.
إلا أن مملكة
صادق لم تسر أحسن مما كانت، وعادت سحب السخط والاستياء تتلبّد
وتتراكم في آفاقها وعلى أرضها، وعاد الناس يصرخون بأعلى
أصواتهم في الساحات العامة، أنهم يريدون من يحكم بينهم ويدير
أمورهم، وصاح الشيب والشبّان قائلين بصوت واحد: "نريد
ملكنا!".
وبحثوا عن الملك
فوجدوه يكدح في الحقل، وأتوا به إلى مكانه، وسلّموه تاجه
وصولجانه، وقالوا: "الآن
احكمنا بعزم وعدل"
قال: "سأحكمكم
في الحقيقة بعزم، وأدعو آلهة السماء والأرض أن تعينني على أن
أحكمكم أيضاً بعدل"
ثم جاءه رجال
ونساء كلّموه في شأن والٍ أساء معاملتهم، واتخذ منهم عبيداً،
وما كان ينظر إليهم إلا على أنهم عبيد، فأمر الملك رأساً
بإحضار الوالي، حتى إذا مثل بين يديه قال له: "إن
حياة إنسان في موازين الله تعادل حياة أي إنسان غيره. وما دمت
لا تعرف كيف تَزِنٌ حيوات هؤلاء الذين يعملون في حقولك وكرومك،
فقد نفيتك وعليك أن تترك هذه
المملكة إلى الأبد"
وفي اليوم
التالي جاءت الملك جماعة اخرى وكلمته في شأن أميرة قاسية القلب
تقيم وراء التلال، وحدّثته عن البؤس الذي نشرته في البلاد،
فجيء فوراً بالأميرة، وحكم عليها الملك أيضاً بالنفي قائلاً:
"إن
هؤلاء الذين يحرثون حقولنا ويبذلون العناية بكرومنا أشرف منّا
نحن الذين نأكل الخبز الذي يصنعون، ونشرب الخمرة التي يعصرون.
وما دمتِ لا تعرفين ذلك، فإن عليكِ أن تتركي هذه الأرض وتبتعدي
عن هذه المملكة"
ثم جاءه رجال
ونسوة أخبروه أن الأسقف يرغمهم على حمل الحجارة ونحتها لإقامة
الكنيسة، ثم لا يعطيهم شيئاً على عملهم هذا،
وهم يعرفون أن خزائن الأسقف ملأى
بالذهب والفضة، ويبيتون مع ذلك على الجوع لا يجدون ما يقتاتون
به.
ونُودي على
الأسقف، وحين مثل بين يدي الملك قال له: "هذا
الصليب الذي تحمله على صدرك، إنما يعني إعطاء حياة لقاء حياة.
ولكن أنت أخذت حياةً من حياةٍ دون أن تعطي شيئاً. ولذا، عليك
أن تترك هذه المملكة، وأن لا تعود أبداً"
وهكذا، مرّ شهر
بأكمله على الملك، وكلّ يوم يأتيه فيه رجال ونساء يخبرونه عن
الأعباء التي ألقيت على كواهلهم، وكان كل يوم يمر من ذلك الشهر،
يشهد ظالماً أو أكثر ينفى من البلاد.
وعجب شعب صادق،
وامتلأت القلوب غبطة
وفرحاً.
وذات يوم أقبل الشيب و الشبان وأحاطوا ببرج الملك ونادوه
فأتاهم وهو يحمل تاجه بيد، وصولجانه بيد.
ثم خاطبهم قائلاً:
"والآن
ماذا تريدون منّي؟
ها أنا أعيد إليكم الأشياء التي رغمتم إليّ في حملها".
ولكنهم صاحوا:
"لا!
لا!
أنت ملكنا الصالح، العادل. لقد جعلت أرضنا نظيفة من الأفاعي،
ورددتها خلواً من الذئاب، ونحن جئنا نترنم بحمدك والثناء عليك.
التاج لك في جلال، و الصلجان لك في المجد".
أجاب الملك
عندئذ قائلاً: "لا
لست أنا!
لست أنا!
أنتم أنفسكم الملِك. فأنتم حين قدّرتم بي الضعف وسوء الحكم،
كنتم أنفسكم ضعافاً سيّئي الأحكام. والآن إنما تسير البلاد
أحسن، لأن تلك هي
مشيئتكم.
ما انا إلا فكرة عقولكم جميعها، ولا وجود لي إلا في اعمالكم.
ليس هناك شخص اسمه حاكم. المحكومون وحدهم هم الذين وجدوا
ليحكموا انفسهم".
وعاد الملك فدخل
برجه مع تاجه وصولجانه ومضى الشبان والشّيب كلّ في سبيله وهم
في غبطةٍ وسرور.
وكان كل واحد
يحسب نفسه أنه ملك يحمل تاجاً بيد، وصولجاناً بيد.