Facebook Login JavaScript Example

 

 

 
 

> الصفحة الرئيسية - الحكمة - جبران خليل جبران

 

 

العالم والشاعر

 

 

قالت الحية للحسون: "ما أجمل طيرانك أيها الحسون! ولكن حبذا لو أنك تستطيع أن تنسلّ إلى ثقوب الأرض وأوكارها. حيث تختلج عصارة الحياة في هدوء وسكون!"

 فأجابها الحسون وقال: "أي وربي! إنّك واسعة المعرفة بعيدتها، بل أنت أحكم جميع المخلوقات، ولكن حبذا لو أنك تطيرين."

 فقالت الحية كأنها لم تسمع شيئاّ: "مسكين أنت أيها الحسون! فإنك لا تستطيع أن تبصر أسرار العمق مثلي، ولا تقدر أن تتخطر في خزائن الممالك الخفية، فترى أسرارها ومحتوياتها. أما أنا فلا أبعد بك، فقد كنت في الأمس متكئة في كهف من الياقوت الأحمر أشبه بقلب رمانة ناضجة، وأضأل الأشعة تحوّلها إلى وردة من نور. فمن أعطي سواي في هذا العالم أن يرى مثل هذه الغرائب؟"

فقال لها الحسون: "بالصواب قد حكمتِ أيتها الحكيمة، فلا أحد إلكِ يستطيع أن يفترش ما تبلور من تذكارات العصور، وآثار الدهور. ولكن وا أسفاه، فإنك لا تغردين!"

 فقالت الحية: "إنني أعرف نباتاً تمتد جذوره إلى أحشاء الأرض، وكل من يأكل من تلك الجذور يصير أجمل من عشتروت."

 فأجابها الحسون قائلاً: "لا أحد، لا أحد مثلك قد اهتدى إلى حسر القناع عن فكر الأرض السحري. ولكن واأسفاه، إنك لا تطيرين!"

فقالت الحية: "وأعرف جدولاً أرجوانياً يجري تحت جبل عظيم، وكلّ من يشرب من هذا الجدول يصير خالداً خلود الآلهة. وليس بين الطير أو الحيوان من اهتدى إلى ذلك الجدول سواي."

فأجاب الحسون وقال: "بلى والله. فإن في منالك أن تكون خالدة مثل الآلهة لو شئتّ. ولكن وا أسفاه، إنك لا تغردين!"

فقالت الحية: "وأعرف هيكلاً مطموراً تحت تراب الأرض، لم يهتبرة الأزمنة الغابرة. وقد نُقشت على جدرانه أسرار جميع الأزمنة و الأمكنة، وكل من يقرأها ويفهمها يوازي الآلهة في العقل والمعرفة."

 فأجابها الحسون قائلا: "بلى أيتها الحكيمة العزيزة، فإنك لو شئت لاستطعت أن تكتنفي بلين جسدك جميع معارف الأجيال. ولكنك واأسفاه، لا تقدرين أن تطيري!"

 فاشمأزت الحية إذ ذاك من حديثه، وارتدّت عنه إلى وكرها، وهي تبربر في ذاتها قائلة: "قبحه الله من غرّيد فارغ الرأس!"

 أما الحسون فطار وهو يغني بأعلى صوته قائلا: "واأسفاه، إنَّك لا تغردين ! واأسفاه، واأسفاه يا حكيمتي، فإنك لا تطيرين!"

* * *

جبران خليل جبران

شرح المقال

 

   يطرح جبران في هذا العمل الرائع، قضية فكرية أخرى.. حددها حسب العنوان (العالِم والشاعر)، وهو عمل حوار بين العالم الذي يعرف سطحيات الأمور والعالم المادي عبر دراساته وتجاربه المخبرية، وبين الشاعر الذي يعرف غوامض الأمور عبر احساسه المرهف.

لكن هل من شيء غريب في هذا العمل؟
كيف يحمل المقال عنوان "العالم والشاعر"، بينما لا نجد في النص عالماً ولا حتى شاعراً!! بل نجد حية (ثعبان) وطائر الحسون، يدور بينهما حوار..
إن جبران يطرح قضية فكرية.

في بداية النص، يدخل القارئ في صلب الموضوع عبر قول الحية للحسون:

"ما أجمل طيرانك أيها الحسون ! ولكن حبذا لو أنك تستطيع أن تنسلّ إلى ثقوب الأرض وأوكارها. حيث تختلج عصارة الحياة في هدوء وسكون!"

 قول الحية هذا، يدخلنا في صلب الموضوع، إذ إنها فتحت لنا أفقين من المنطق أو الاتجاهات.. الأول إن الحسون يستطيع الطيران في أطراف السماء، ولكنه لا يستطيع أن يدخل في جوف الأرض ويعرف أسرارها.

يمكن أن نشبه الطيران بالحالة العاطفية أو الروحانية التي يعيشها المرء المتمثل بالحسون أو الشاعر، فإنه يعرج ويطير إلى السماء بروحيه حينما يعيش حالة الخشوع أو النشوة. كما يمكن أن نشبه الثعبان الذي يدخل في جوف الأرض فيعرف أسرارها، بالعالِم الذي يدرس ويكتشف قوانين الكون، و يعرفتركيبة عناصره ومعادنه والتفاعلات الكيميائية..

فالخاشع الذي تطير روحه في السماء قد لا يكون عالما بأسرار الطبيعة وقوانينها كما يعرفها العالم المتمثل بالثعبان، كما ان هذا العالم الذي يعرف بأسرار باطن الأرض والعالم المادي، يا حبذا لو استطاع التحليق عاليا -كما قال الحسون للثعبان. وقد نستدل بهذا التأويل على اجابة الحسون على قول الحية:

"فأجابها الحسون وقال: "أي وربي ! إنّك واسعة المعرفة بعيدتها، بل أنت أحكم جميع المخلوقات، ولكن حبذا لو أنك تطيرين."

في صياغ آخر: إي وربي! إنك عالمة بأسرار الأرض والطبيعة، وأنت حكيمة أكثر من باقي المخلوقات، ولكن حبذا لو أنك تستطيعين التحليق والطيران بهذه المعرفة التي تأخذك إلى روابي الجمال والخشوع، كما تأخذني أجنحتي إلى تلك المواطن، حتى لو لم أكن عالماً ببواطن الأمور وأسرار الأرض مثلك أيتها الحية العالمة.

من هنا تبدأ المناظرة بين الطرفين..

"فقالت الحية كأنها لم تسمع شيئاّ: "مسكين أنت أيها الحسون ! فإنك لا تستطيع أن تبصر أسرار العمق مثلي، ولا تقدر أن تتخطر في خزائن الممالك الخفية، فترى أسرارها ومحتوياتها. أما أنا فلا أبعد بك، فقد كنت في الأمس متكئة في كهف من الياقوت الأحمر أشبه بقلب رمانة ناضجة، وأضأل الأشعة تحوّلها إلى وردة من نور. فمن أعطي سواي في هذا العالم أن يرى مثل هذه الغرائب ؟"

كان رد فعل الحية للحسوس شديداً، ولم تتجاوب معه بشكل إيجابي، حيث لا نجدها أنها قد اعترفت بعجزها عن التحليق ولا نسبت هذه القدرة إلى الحسون، بل نجدها قد مجّدّت نفسها. كما في واقعنا الحالي، أن يكون العلم يعمي والجهالة تعمي و كلاهما بلاء، ونجد الاختلاف أيضاً في رد الفعل والتجاوب كلا من الحية والحسون في جوابه لها، حيث قال:

"بالصواب قد حكمتِ أيتها الحكيمة، فلا أحد إلك يستطيع أن يفترش ما تبلور من تذكارات العصور، وآثار الدهور. ولكن وا أسفاه، فإنك لا تغردين !"

إن التجاوب الذي بدر من الحسون، قد أخذ النسبة الأكبر في جوابه السابق، ولا نجد رد فعل سلبية إلا في نهاية جوابه للحية، إذ قال: "ولكن وا أسفاه، فإنك لا تغردين." حيث نجد رد الفعل البسيط هذا يتكرر طوال الحوار الذي دار بينهما..

"فقالت الحية: "إنني أعرف نباتاً تمتد جذوره إلى أحشاء الأرض، وكل من يأكل من تلك الجذور يصير أجمل من عشتروت."

فأجابها الحسون قائلاً: "لا أحد، لا أحد إلأاكِ قد اهتدى إلى حسر القناع عن فكر الأرض السحري. ولكن واأسفاه، إنك لا تطيرين !"

أما عن نهاية الحديث، نجد الحية قد اشمأزت من الحسون وحديثه، وعادت إلى وكرها، وهي تقول في داخلها: "قبحك الله من غرّيد فارغ الرأس!"

"أما الحسون فطار وهو يغني بأعلى صوته قائلا: "واأسفاه، إنَّك لا تغردين ! واأسفاه، واأسفاه يا حكيمتي، فإنك لا تطيرين !"

 

من عظمة الأنا والأنانية التي تحملها الحية في داخلها، حيث حجبت هذه عن رؤية جمال الحسون من جانب المظهر، وعن طربه من جانب التغريد والغناء، ومن ناحية البهجة التي ينشرها و يحملها في قلبه أينما حل.

لهذا يدعون المرشدون المعاصرون إلى قتل الأنا ككيان مستقل منطوي على ذاته، لأنه يحجب الكثير من الإدراك والمعرفة عن صاحبه، و قد يكون سبب للغرور والجهل والأنانية، وخاصة.. إذا انتفخت وتعاظمت في أدائها. بينما نجد الحسونإنه قد اعترف بالحكمة التي تحملها الحية، والمعرفة التي تبصرها، فنجده قد طار عاليا، وحتى إنه لم يتذمر أو يتأسف حزناً على حال الحسية -عكس ما بدر من الحية-، بل نجد الحسوق قد:

"..طار وهو يغني بأعلى صوته قائلا: "واأسفاه، إنَّك لا تغردين ! واأسفاه، واأسفاه يا حكيمتي، فإنك لا تطيرين !"

* * *

جبران خليل جبران

 

طباعة الصفحة من أجل طباعة الصفحة، تحتاج إلى قارئ PDF

 

 

 

 

للاتصال بنا

ahmad@baytalsafa.com

أحمد الفرحان -الكويت.

 

 

 

facebook

أحمد الفرحان

مجموعة الاسقاط النجمي

مجموعة التحكم بالأحلام

 

 

 

 

 

"لو كان الفقر رجل لقتلته" رغم حجم الصدقات التي يدفعها الشعب البترولي. إلا أن لا زال الفقر والمرض والطمع موجود. نحتاج إلى حياة جديدة تنفض الغبار لتنتعش الإنسانية من جديد.

مالك أمانة، فانتبه أين تصرفه.. للسلاح أم للسلام.

 

الدعم المعنوي لا يقل أبدا عن الدعم المادي، لأن كلاهما يعبران عن قدرتنا على صنع واقع صحي جديد.

 

 

____________________________

جميع الحقوق محفوظة بالملح وبعلب صحية