واضح من المقال أن جبران يناقش قضية
"الحقيقة والواقع والتناقض الذي بينهما".. فبعد أن توّج الملك، ذهب إلى
داره وخلع (القناع) الذي كان يرتديه وهو وشاح المُلك - وهنا يوصل لنا
جبران أن ليس هناك أحد مَلِك في الحقيقة - فليس هناك ملك إلا ويعود إلى
داره يتعرى من ملكه، ومنصبه كما يتعرى المرء من ثيابه.
وعندما كان ينظر إلى نفسه في المرآة،
وإذا برجل خرج من المرآة، ولم يطلق جبران على هذا الرجل لقب أو اسم، بل
اختار أن يكون (رجل) مجهول، ولم يقول "خرجت صورة الملك" أو
"شبه الملك"، ويمكننا أن ندرك أن هذا الجل هو ذات الملك، جوهر
الملك، لأنه عريان، بلا أقنعة تعلو رأسه، كتاج الملك، أو تغطيه ملابس
مزركشة، كوشاح الملك... إن الرجل الذي خرج من المرآة، كان ذات الملك
وجوهره.
بدأ في حواره الذي ما إن يسأل "رجل
المرأة" الملك عن سر اختيار الشعب له لتتويجه ملكا عليهم، يجيبه الملك
بجواب معتاد، حتى ينفي "رجل المرأة" الحكيم ذلك الجواب، بسؤال آخر.
ونوعية هذا الحوار يسمى بـ المنطق والمنطق البديل، والملك يجيب
على رجل المرأة بجواب منطقي معتاد، ورجل المرأة يقدم المنطق البديل
وينفي المنطق الأول بمنطق آخر. وهذا الحوار يحتاج إلى ذكاء شديد حتى
يخوض المرء فيه، مما يدل على قوة الملاحظة عند جبران، وإبداعه في قدرته
على تقديم المنطق والمنطق البديل في الوقت ذاته. إذ يصعب على المرء أن
يناقض نفسه ويكتب حوار له وجهتي نظر متناقضة.
في بداية المقال، نقرأ أن الملك "نزع
تاجه، وخلع (برفيره) ووقف وسط المقصورة". وفي نهاية المقال نقرأ
"ثم تناول
[رجل
المرأة] تاج الملك المتدحرج على
الأرض ووضه بلطف على رأسته المنحني" والسؤال هنا، كيف تدحرج تاج
الملك على الأرض ؟ لأنه في البداية تم ذكر أن الملك قد نزع تاجه، أي
أزاله من على رأسه ولابد أن يضعه في مكان ما، ثم ذكر جبران أن التاج
كان متدحرج على الأرض، وقد أخذه رجل المرأة ووضعه على رأس الملك. هل
هذا تناقض وسهو من الكاتب، أم قد يعطينا صورة في خيالنا لم تجسدها
المقالة والكلمات؟
لو
نزع الملك تاجه بيديه لكان من المنطقي أن يضعه على الطاولة أو أي مكان،
فلن يكون هناك احتمال لتدحرج التاج إلا حينما سقط الملك باكيا بعد
حديثه مع رجل المرأة، الذي حمل التاج من الأرض ووضعه على رأس الملك
المنحني!
كما أن حال السقوط والانحناء لا يكون
إلا لشيء ضعيف أو هزيل، وهذا لا يكون لرجل صار ملك، اختاره الشعب، وهذه
الحالة ليست للملك (المقنع/الرجل المزيف)، بل هي حالة حقيقة الرجل الذي
ارتدى لباس المُلك، الذي واجه حقيقته التي خرجت من المرأة على صورة رجل
عاري من الأقنعة، حالة السقوط لم تكون إلا بعد حوار الملك مع الرجل
العاري الحقيقي الحكيم الذي خرج من المرأة.
أما عن عنوان المقال الذي هو (الذات
العظمى) فهو يشير إلى الذات
الحقيقية العارية التي في داخل كل واحد فينا، والذي قد تخرج يوم من
الأيام من المرأة، والتي نجدها حكيمة واعية، رحيمة. كما وجدنا ذلك
الرجل العاري الذي خرج من المرأة، والذي لم يوبخ الملك أو يجرحه، بل
كان يستمر في طرح الأسئلة والتي قد تثير وعي خاص في داخل الملك الذي ما
إن سقط حتى رحمه الرجل العاري/الذات العظمى، وألبسه تاج الملك.
هذا الرجل العاري لا يدعو إلى التقشف أو
أن نكون فقراء، بل كل ما كان يريده هو أن يعي المرء حالته ويحاول أن
يطور من نفسه ويرى حقيقته أمامه، فقد كان يريد من الملك ان يعرف سبب
اختيار الناس له أن يكون ملكا، حتى حينما أدرك الملك مدى ضعفه وعجزه عن
مقاومة الحقيقة، فحينما سقط، لم يطلب الرجل العاري منه أن يتخلى عن
الملك، بل ألبسه تاج الملك، كأن يقول له، كن ملكا، وكن واعيا بضعفك حتى
ترتقي أكثر وتصبح أقوى وأكثر كمالا ومثالية.
وبهذا المثال، قدم لنا جبران نموذجين
متناقضين، الأول رجل يعلوه تاج الملك المرصع بالجواهر، والذي
يخلو من أي حكمة يحملها في عقله أو قلبه... بينما المثال الثاني،
فهو رجل عاري لا يملك أي ملابس يرتديها، ولكنه يحمل في داخله حكمة
تغنيه عن الكثير.
هذا ما وجدته في هذا المقال، فماذا
يمكنك أن تجد أنت؟
أحمد الفرحان |