Facebook Login JavaScript Example

 

 

 
 

> الصفحة الرئيسية - الحكمة - جبران خليل جبران

 

 

القديس

 

 

زرت في حداثتي قديساً في صومعته الهادئة، القائمة بين التلال، وفيما كنا نبحث ماهية الفضيلة أطلّ علينا لصّ وهو يتعرّج على الجانبين فوق الروابي، والتعب قد أعياه. وعندما وصل إلى الصومعة، جثا على ركبتيه أمام لقديس وقال له: "أيها القديس الشفيق قد جئتك طالبا تعزية، فإن آثامي قد تعالت فوق رأسي."

فأجابه القديس قائلا: "يا ابني، إن آثامي أنا أيضا قد تعالت فوق رأسي."

فقال اللص: "عفوك يا سيدي ! فأنا سارق، وقاطع طريق، ويستحيل أن تكون مثلي."

فأجابه القديس: "إنك واهم يا بني، فإنني بالحقيقة مثلك سارق وقاطع طريق."

فقال له اللص: "ماذا تقول يا سيدي ؟ فأنا قاتل و دماء الكثيرين من الناس تصرخ في أذني."

فأجابه القديس قائلا: "وأنا أيضا قاتل يا ابني، وفي أذني تصرخ دماء الكثيرين."

 فقال له اللص: "يا سيدي أنا قد ارتكبت شروراً لا تحصى، جرائم لا عداد لها، فكيف تساوي نفسك بي وأنت رجل الله البار؟"

 فأجابه القديس وقال: "لو أنك عرفتَ كثرة شروري لما ذكرت شرورك."

فانتصب اللص إذا ذاك وحدّق في القديس طويلاً، وملء عينيه دهشة وغرابة، ومضى من غير أن ينبس ببنت شفة.

 أما أنا فكنت صامتاً إلى تلك الدقيقة. فالتفتّ آنئذ إلى القديس، وسألته قائلاً: "ما دعاك لى أن تنسب لنفسك شروراً لم ترتكبها قطّ يا سيدي؟ ألا ترى أن هذا الرجل قد مضى ولم يعد من المصدقين بدعوتك، والمؤمنين ببشارتك؟"

فأجاب القديس وقال: "أجل يا بني، فإن بالصواب حكمتُ، بأنه لم يعد من المصدقين بدعوتي، ولكني الحقّ أقول لك إنه قد انصرف والعزاء يملأ فؤاده."

 وفي تلك اللحظة سمعنا اللص يغني من بعيد، وكانت الأودية تردد صدى صوته الممتلئ بالمسرة والتعزية.

* * *

جبران خليل جبران

شرح المقال

 

"زرت في حداثتي قديساً في صومعته الهادئة، القائمة بين التلال، وفيما كنا نبحث ماهية الفضيلة أطلّ علينا لصّ وهو يتعرّج على الجانبين فوق الروابي، والتعب قد أعياه..."

يسرد لنا الراوي روايته، حينما زار قديساً في مكان عبادته المنعزل.. صومعته الهادئة بين التلال. تحدث الراوي مع القديس عن معنى الفضيلة، وكيف تكون، وكيف يفرق بين الفضيلة والرذيلة، والتي سوف نجد الحوار التالي في القصة تعرفنا على معنى الفضيلة. وسيشارك في هذا الحوار الشخصية الثالثة (اللص) لتتكشف به معنى الفضيلة لنا، وما يروم إليه جبران خلف هذه القصة القصيرة.

    جاء اللص للقديس حيث قال له:

"أيها القديس الشفيق قد جئتك طالبا تعزية، فإن آثامي قد تعالت فوق رأسي."

 

    ندرك شعور اللص الذي طلب تعزية من القديس، بعدما شعر بالندم لارتكابها، فأراد أحدا أن يعزيه في ذلك الألم النفسي الذي يحمله في قلبه، وأن يواسيه بذلك الحزن الذي بدأ واضحاً في عباراته، حيث يشعر بالغرق في آثامه حيث قال: "فإن آثامي قد تعالت فوق رأسي".

    توقع اللص أن يجيبه القديس مثل باقي القديسين الذين يحكمون على اللص بالنار الأبدية، وألا يغفر الله له إلا بعدما يوقع صك الغفران أو حتى يعترف بخطاياه، ويشعر بالندم الشديد ويذوق بعض من النار الأبدية. إلا أنه تفاجأ من رد القديس عليه، حيث قال له:

    "يا ابني، إن آثامي أنا أيضا قد تعالت فوق رأسي.
فقال اللص: "عفوك يا سيدي! فأنا سارق، وقاطع طريق، ويستحيل أن تكون مثلي."

فأجابه القديس: "إنك واهم يا بني، فإنني بالحقيقة مثلك سارق وقاطع طريق."

    فقال له اللص: "ماذا تقول يا سيدي ؟ فأنا قاتل و دماء الكثيرين من الناس تصرخ في أذني."

    فأجابه القديس قائلا: "وأنا أيضا قاتل يا ابني، وفي أذني تصرخ دماء الكثيرين."

    فقال له اللص: "يا سيدي أنا قد ارتكبت شروراً لا تحصى، جرائم لا عداد لها، فكيف تساوي نفسك بي وأنت رجل الله البار؟"

 

    من خلال هذا الحوار، ندرك كيف ساير أو تابع أو تفاعل القديس بشكل إيجابي مع اللص، وندرك أيضاً ازدياد تعجب اللص من رد القديس عليه..

لم يعاتب القديس على ما ارتكبه اللص، ولو كان للقديس "رد فعل" أي لو اعترض وعارض وحكم وناقض واقترح ماهو بديل، فيمكننا أن نسمى تصرف القديس بـ"رد الفعل" أي تصرف معارض أو سلبي أو مناقض لما بدر من اللص. بينما تصرف القديس يمكننا أن نسميه بـ"التجاوب" أي التصرف بطريقة تفاعلية ايجابية، يوافق فعل اللص، ولا يناقضه أو يصدمه، مثل التفاعل الكيميائي أو الحيوي. وقد يتطور التفاعل في هذا الحوار إلى أن يصل إلى الذوبان في بعضه، حيث نجد ذلك في قول اللص:"فكيف تساوي نفسك بي وأنت رجل الله البار؟". وازداد تفاعل القديس أكثر، حينما قال له:

"لو أنك عرفتَ كثرة شروري لما ذكرت شرورك.

فانتصب اللص إذا ذاك وحدّق في القديس طويلاً، وملء عينيه دهشة وغرابة، ومضى من غير أن ينبس ببنت شفة."

    وفي رد القديس الأخير، كلام قد يطول، نختصره، فنقول أننا قد نفهم من ذلك أنه قدم "التعزية" المطلوبة للص دون أن يعزيه بطريقة معتادة، بل شاركه الألم، كأنه قال له "أنا لص مثلك... اختبرت الفقر والمعاناة والخوف تماما كما أنت اختبرته... وقد ارتكبت الشرور والجرائم ولازال صدى صراخ الكثيرين في أذني تماما كما هو صدى صراخ الكثيرون في أذنك" وبهذا يكون القديس قدم التعزية المطلوبة.

    من جانب آخر، نجد أنه قد أدله على طريق الله القويم، فهو قديس لابد من تقديم هذا النوع من الخدمة والوعي للمريدين، قدم للص طريق التوبة في ذلك الحوار، دون أن يوبخه أو يشعره بالعار والخزي، بل تكمن براعة القديس -الذي يصوره جبران لنا- في أنه لم يذكر أثناء الحوار أي كلمة تدل على هذا الصراط المستقيم، أو أي كلمة تدل على الهداية أو الصلاة أو الله أو الحسنة أو المعصية أو حتى الحساب والثواب والعقاب!

كيف ذلك؟
يمكن أن يعتقد البعض أن القديس كان يكذب رحمتاً وتعاطفا مع اللص، كان يدّعي الجريمة والقتل من أجل أن يخفف الألم النفسي الذي يحمله اللص في قلبه.. ولكن العكس هو الصحيح، فلما لا نفهم أن القديس كان لصاً سارقاً وقاتلا في الماضي ؟؟ وبعد أن تاب وشعر بالندم وطلب التعزية.. وأصبح بعد ذلك قديساً، هو ذاته الذي كان سارقا في الأمس، واليوم قديساً يطلب منه تعزية الآخرين! -أي أن القديس هو مثال للص الذي كان يسرق و يقتل ثم أصبح قديسا، مثال للص من أجل أن يحتذى به.

الفكرة هذه وصلت للص في نهاية حواره، لهذا وقف صامتاً محدقاً في القديس برهة. ثم ذهب في سبيله وهو ممتلئ بالمسرة، أي (الفرح) والتعزية، أي (الحزن وحداد الألم) في الوقت ذاته. الفرح لأن باب التوبة والأمل والمثال الذي يحتذى به قد وُجـِـدَ، والحزن كان بسبب الحداد الذي يعيشه على الشرور الماضية.

   من هنا نجد حوار القديس والراوي عن الفضيلة قد تم، وبانت صورة ومعنى الفضيلة... فلا تعني الفضيلة أن كل عمل صالح ظاهرياً قد يؤدي إلى ايجابية باطنية، ولا تعني أن كل عمل طالح يؤدي إلى سلبية ما... يمكن أن يكون القديس قد كذب بشأن أنه خاطئ وقاتل، لكنه حقق التعزية والهداية للص.. وبالوقت نفسه قد أوصل للراوي معنى الفضيلة والذي قطع حوارهما اللص في بداية القصة.

    من خلال هذه القصة ينتقد الكاتب طريقة رجال الدين في الوعظ والهداية.. وقد تذكرنا هذه القصة بقصة النبي موسى وسيدنا الخضر، الذي كان يعمل أفعال ظاهرها شر ولكن لها هدف سامي في باطنها، وهذه الأفعال التي قام بها الخضر تحمل معنى للفضيلة والحق.

* * *

أحمد الفرحان
24-10-2010

 

طباعة الصفحة من أجل طباعة الصفحة، تحتاج إلى قارئ PDF

 

 

 

للاتصال بنا

ahmad@baytalsafa.com

أحمد الفرحان -الكويت.

 

 

 

facebook

أحمد الفرحان

مجموعة الاسقاط النجمي

مجموعة التحكم بالأحلام

 

 

 

 

 

"لو كان الفقر رجل لقتلته" رغم حجم الصدقات التي يدفعها الشعب البترولي. إلا أن لا زال الفقر والمرض والطمع موجود. نحتاج إلى حياة جديدة تنفض الغبار لتنتعش الإنسانية من جديد.

مالك أمانة، فانتبه أين تصرفه.. للسلاح أم للسلام.

 

الدعم المعنوي لا يقل أبدا عن الدعم المادي، لأن كلاهما يعبران عن قدرتنا على صنع واقع صحي جديد.

 

 

____________________________

جميع الحقوق محفوظة بالملح وبعلب صحية