|
|||||||||
> الصفحة الرئيسية - الحكمة - جبران خليل جبران |
|||||||||
القديس
شرح المقال
يسرد لنا الراوي روايته، حينما زار قديساً في مكان عبادته المنعزل.. صومعته الهادئة بين التلال. تحدث الراوي مع القديس عن معنى الفضيلة، وكيف تكون، وكيف يفرق بين الفضيلة والرذيلة، والتي سوف نجد الحوار التالي في القصة تعرفنا على معنى الفضيلة. وسيشارك في هذا الحوار الشخصية الثالثة (اللص) لتتكشف به معنى الفضيلة لنا، وما يروم إليه جبران خلف هذه القصة القصيرة. جاء اللص للقديس حيث قال له:
ندرك شعور اللص الذي طلب تعزية من القديس، بعدما شعر بالندم لارتكابها، فأراد أحدا أن يعزيه في ذلك الألم النفسي الذي يحمله في قلبه، وأن يواسيه بذلك الحزن الذي بدأ واضحاً في عباراته، حيث يشعر بالغرق في آثامه حيث قال: "فإن آثامي قد تعالت فوق رأسي". توقع اللص أن يجيبه القديس مثل باقي القديسين الذين يحكمون على اللص بالنار الأبدية، وألا يغفر الله له إلا بعدما يوقع صك الغفران أو حتى يعترف بخطاياه، ويشعر بالندم الشديد ويذوق بعض من النار الأبدية. إلا أنه تفاجأ من رد القديس عليه، حيث قال له:
من خلال هذا الحوار، ندرك كيف ساير أو تابع أو تفاعل القديس بشكل إيجابي مع اللص، وندرك أيضاً ازدياد تعجب اللص من رد القديس عليه.. لم يعاتب القديس على ما ارتكبه اللص، ولو كان للقديس "رد فعل" أي لو اعترض وعارض وحكم وناقض واقترح ماهو بديل، فيمكننا أن نسمى تصرف القديس بـ"رد الفعل" أي تصرف معارض أو سلبي أو مناقض لما بدر من اللص. بينما تصرف القديس يمكننا أن نسميه بـ"التجاوب" أي التصرف بطريقة تفاعلية ايجابية، يوافق فعل اللص، ولا يناقضه أو يصدمه، مثل التفاعل الكيميائي أو الحيوي. وقد يتطور التفاعل في هذا الحوار إلى أن يصل إلى الذوبان في بعضه، حيث نجد ذلك في قول اللص:"فكيف تساوي نفسك بي وأنت رجل الله البار؟". وازداد تفاعل القديس أكثر، حينما قال له:
وفي رد القديس الأخير، كلام قد يطول، نختصره، فنقول أننا قد نفهم من ذلك أنه قدم "التعزية" المطلوبة للص دون أن يعزيه بطريقة معتادة، بل شاركه الألم، كأنه قال له "أنا لص مثلك... اختبرت الفقر والمعاناة والخوف تماما كما أنت اختبرته... وقد ارتكبت الشرور والجرائم ولازال صدى صراخ الكثيرين في أذني تماما كما هو صدى صراخ الكثيرون في أذنك" وبهذا يكون القديس قدم التعزية المطلوبة. من جانب آخر، نجد أنه قد أدله على طريق الله القويم، فهو قديس لابد من تقديم هذا النوع من الخدمة والوعي للمريدين، قدم للص طريق التوبة في ذلك الحوار، دون أن يوبخه أو يشعره بالعار والخزي، بل تكمن براعة القديس -الذي يصوره جبران لنا- في أنه لم يذكر أثناء الحوار أي كلمة تدل على هذا الصراط المستقيم، أو أي كلمة تدل على الهداية أو الصلاة أو الله أو الحسنة أو المعصية أو حتى الحساب والثواب والعقاب!
كيف ذلك؟ الفكرة هذه وصلت للص في نهاية حواره، لهذا وقف صامتاً محدقاً في القديس برهة. ثم ذهب في سبيله وهو ممتلئ بالمسرة، أي (الفرح) والتعزية، أي (الحزن وحداد الألم) في الوقت ذاته. الفرح لأن باب التوبة والأمل والمثال الذي يحتذى به قد وُجـِـدَ، والحزن كان بسبب الحداد الذي يعيشه على الشرور الماضية. من هنا نجد حوار القديس والراوي عن الفضيلة قد تم، وبانت صورة ومعنى الفضيلة... فلا تعني الفضيلة أن كل عمل صالح ظاهرياً قد يؤدي إلى ايجابية باطنية، ولا تعني أن كل عمل طالح يؤدي إلى سلبية ما... يمكن أن يكون القديس قد كذب بشأن أنه خاطئ وقاتل، لكنه حقق التعزية والهداية للص.. وبالوقت نفسه قد أوصل للراوي معنى الفضيلة والذي قطع حوارهما اللص في بداية القصة. من خلال هذه القصة ينتقد الكاتب طريقة رجال الدين في الوعظ والهداية.. وقد تذكرنا هذه القصة بقصة النبي موسى وسيدنا الخضر، الذي كان يعمل أفعال ظاهرها شر ولكن لها هدف سامي في باطنها، وهذه الأفعال التي قام بها الخضر تحمل معنى للفضيلة والحق.
أحمد الفرحان
| |||||||||
|