Facebook Login JavaScript Example

 

 

 
 

> الصفحة الرئيسية - الحكمة - جبران خليل جبران

 

 

بنت الأسد

 

 

وقف أربعة عبيد يروّحون بمراوحهم لملكة حيزبون كانت نائمة على عرشها تغطّ غطيطاً غليظاً. وكان في حضن الملكة هٌرّة متئة تموء وهي تنظر إلى العبيد نظرة كره واشمئزاز.

فقال العبد الأول لرفاقه: "ما أبشع هذه الحيزبون نائمة! انظروا كيف تراخت شفتاها، وهي تصعّد أنفاسها كأنما الشيطان آخذ بخناقها".

فماءت الهرة قائلة: "إن بشاعتها في رقدتها ليست جزءاً من بشاعتكم في عبوديتكم وأنتم مستيقظون."

ثم قال العبد الثاني: "ومن الغريب أن النوم لم يلطف ملامح وجهها، بل زادها تجعداً، فهي ولا شك حالمة حلماً شريراً راعباً."

فماءت الهرة قائلة لهم: "حبذا لو تنامون أنتم وتحلمون بحريتكم!"

فقال العبد الثالث لرفاقه أيضا: "يلوح لي أنها ترى في منامها موكب جميع ضحاياها الذين قتلتهم ظلماً وعدواناً."

فماءت الهرة قائلة: "نعم، فهي ترى مواكب أجدادكم وحفدتكم."

 ثم قال العبد الرابع: "ما أغباكم تتحدثون عن هذه الملكة وهي نائمة، وماذا يجديكم الحديث نفعاً أو يجديني ؟ ألعله يخفف عني نصيبي في وقوفي وعنائي في ترويحي لها؟"

فقالت الهرة وهي تموء: "أجل، إنكم ستُرّوَّحون َ إلى دهر الداهرين، لأنه كما على الأرض كذلك في السماء."

وفي تلك اللحظة تحركت الملكة في نومها فسقط تاجها على الأرض فقال واحد من العبيد: "إن في ذلك لشؤماً!"

 فماءت الهرة وقالت: "مصائب قوم عند قوم فوائد"

فقال العبد الثاني: "ماذا يحل بنا إذا أفاقت الآن من نومها ورأت تاجها ساقطاً على الأرض؟ والله أنها تذبحنا جميعنا !"

  فماءت الهرة قائلة: "قد كانت تذبحكم منذ ميلادكم وأنتم لا تعلمون."

 وقال العبد الثالث: "إنها ولا شك تذبحنا، وتعتبر أنها بعملها إنها تقرب عبادة لآلهتها."

 فماءت الهرة قائلة: "لا يضحي للآلهة إلا الضعفاء."

أما العبد الرابع فأسكت رفقاءه عن الكلام، والتقط التاج بتأنّ ووضعه على رأس الملكة من غير أن يوقظها.

فماءت الهرة  و قالت بصوت عال: "الحق أقول لكم إنه لا يلتقط التيجان المتدحرجة سوى العبيد"

وبعد هنيهة استيقظت الملكة، وتلفتت حواليها متثائبة ثم قالت لعبيدها: "يخيّل إليّ إني حلمت بأني رأيت أربع حشرات يطاردها عقرب حول جذع سنديانة جبارة. قبحه الله من حلم مزعج !"

 وأطبقت عينيها فنامت ثانية بعد أن ملأت القاعة بغطيطها، فطفق العبيد الأربعة يروحون لها على جاري عادتهم.

أما الهرة فماءت قائلة: "روّحوا، روّحوا أيها العميان والأغبياء، فأنتم لا تروّحون إلا ناراً تلتهم وجودكم"

* * *

جبران خليل جبران

شرح المقال

 

 "وقف أربعة عبيد يروّحون بمراوحهم لملكة حيزبون كانت نائمة على عرشها تغطّ غطيطاً غليظاً. وكان في حضن الملكة هٌرّة متئة تموء وهي تنظر إلى العبيد نظرة كره واشمئزاز.

فقال العبد الأول لرفاقه: "ما أبشع هذه الحيزبون نائمة ! انظروا كيف تراخت شفتاها، وهي تصعّد أنفاسها كأنما الشيطان آخذ بخناقها".

فماءت الهرة قائلة: "إن بشاعتها في رقدتها ليست جزءاً من بشاعتكم في عبوديتكم وأنتم مستيقظون."

ثم قال العبد الثاني: "ومن الغريب أن النوم لم يلطف ملامح وجهها، بل زادها تجعداً، فهي ولا شك حالمة حلماً شريراً راعباً.

فماءت الهرة قائلة لهم: "حبذا لو تنامون أنتم وتحلمون بحريتكم!" "

 

ما تقدمه هذه الهرة في كلامها أن بشاعة الملكة وهي نائمة في لاوعيها أو في جهالتها أو غفوتها لا تُحسب أنها من بشاعة العبيد وهم مستيقظون نفسها..

الملكة هنا تمثل أي شيء عالي المقام اجتماعيا أو اقتصاديا أو علمياً، وكذلك العبيد يمثلون طبقة أدنى من سابقتها. وأرى أن الكاتب بهذه الأسطر ينتقد الطبقات الاجتماعية كلها، ولم يقصد الطبقة الأدنى فقط، ولو تحيز قليلا ليثير الثورة في قلوب من ينتمي للطبقة الدنيا. فالملكة ومع ملكها وثروتها الذي تحت سيطرتها وبحوزتها، تجهل بشاعتها حينما تنام، فالنوم يمثل حالة السبات أو الجهل أو الغفوة الذي نجده كثيرا ما يسيطر على من يلعب دور الأعلى بين الآخرين.

أما الهرة فتلعب دور الوزير أو الحَكَم، الذي يكون عارف ببشاعة طبقتي الدنيا والعليا، ولكنها حكمت في هذا الفصل أن بشاعة الملكة الحيزبون وهي لا تجري عن حالها، لاواعية، جاهلة أو غير مدركة، ليست مثل بشاعة العبيد وهم يلعبون دور العبيد الذليلين وهم يعرفون حالهم ولا يحاولون أن يغيروا من واقعهم بشيء.

كذلك انتقد بكلمات أشد الطبقة الأدنى، لأنها تعلم بعبودية نفسها، ولم تحاول التغيير، لهذا فقد وصف السلبية للطبقة الأعلى ببشاعة الجهل، بينما وصف الطبقة الأدنى ببشاعة أشد وأكثر شناعة لأنها مرافقة لوعي ومعرفة بذلك البشاعة والدناءة والعبودية.

 

"فقال العبد الثالث لرفاقه أيضا: "يلوح لي أنها ترى في منامها موكب جميع ضحاياها الذين قتلتهم ظلماً وعدواناً."
 فماءت الهرة قائلة: "نعم، فهي ترى مواكب أجدادكم وحفدتكم." "

 

    هنا كذلك يوجه الكاتب نقده إلى الطبقة الدنيا وهم العبيد الذين لا يرون النقص الذي فيهم بل دائما ما ينظرون إلى سلبيات الطبقة الأخرى دون الالتفاف لحالهم، حيث قال العبد الثاني أن النوم -وهو الجهل- لم يلطف ملامح وجهها، أي لم يجعل (الغفوة) وسيلة لظهور البراءة على ملامح الملكة، كما تظهر الغفوة -عادة- أو حالة "اللاعلم" لدي الأطفال براءتهم المشعة في وجوههم. بل قد نسب هذا العبد أن الشر لم ينتهي عند الحيزبونة بعد، بل تبلور ما خُّزِنَّ داخلها على صورة حلم شرير مرعب. 

    لكن قابلت هذه الأفكار، أفكار الهرة التي سخرت منهم حينها وقالت لهم وبكلمات أخرى، أنه من الجيد لكم لو استطعتم النوم.. بل لو استطعتم النوم والحلم في حريتكم، وذلك لأنكم إذا شرّحنا عقولكم وقلوبكم، قد لا نجد للحرية أي أثر داخلكم حتى تستطيعون النوم والحلم بها.

ثم..

"ثم قال العبد الرابع: "ما أغباكم تتحدثون عن هذه الملكة وهي نائمة، وماذا يجديكم الحديث نفعاً أو يجديني؟ ألعله يخفف عني نصيبي في وقوفي وعنائي في ترويحي لها ؟"
فقالت الهرة وهي تموء: "أجل، إنكم ستُرّوَّحون َ إلى دهر الداهرين، لأنه كما على الأرض كذلك في السماء." "

 

    بعد جملة ظن ألقاها العبد الثالث، وأعقبه لوم زميله الرابع وسؤالهم عن غبائهم وحديثهم الغبي الغريب. فحديثهم هذا والحيزبونة لا تدري عنه لن يجدي نفعاً، ولا يمكن اعتباره وسيلة لضياع الوقت وقتله، وهم واقفون يروّحون بمراوحهم التي قد تكون من الريش. فتدخلت الهرة في الحديث هذا، وبأسلوب أكثر مرارة، حيث حكمت الهرة على أنهم سيلوّحون بالمراوح من أجل الملكة إلى الأبد، لأنه قد قيل أن (الذي يكون في الأرض سيكون في السماء) أي أن ما تصنعونه أنتهم وتعيشونه على الأرض، سيكون كذلك في حياتكم الأبدية في السماء. وهذا القول المأثور عكسه الكاتب، فهو قول مأثور عن الصلاة الربانية في الديانة المسيحية كما نص القول في الإنجيل: "لتكن مشيئتك على الأرض، كما هي في السماء" وذلك في الإصحاح السادس من إنجيل متى. فعبارة جبران تصرح؛ أن حالنا في الأرض هو الذي يقرر حالنا في السماء، بينما عبارة الإنجيل كانت تصرح؛ وتنسب أحداث الأرض إلى السماء. ولكن الكاتب أعطانا أمر آخر مغاير لذلك في الموضع نفسه، حيث لم يعبر الكاتب عن الفكرة شخصيا، بل جعل الهرة تحمل هذه الفكرة، وهي التي قد تكون مكّارة أو لها منطق مغاير للحقيقة أو حتى قد تكون قد أصابت حقاً.. وهي أن الإنسان على الأرض هو الذي يحدد قدره، فإنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وهنا يوجه الكاتب فكرته للعبيد أو الخاضعين لأي نظام مسيطر جبار، أنه لن تتغير حالتكم ويمكن أن تستمروا عبيد إلى مالانهاية، لأنكم تكتبون ذلك على أنفسكم، ولن يتغير قدركم إلا أن تتغير تصرفاتكم الآنية -الآن- في هذه اللحظة.

    وهنا يناقض جبران أو يقدم لنا منطق آخر عن المنطق الإنجيلي، وهو منطق أن القدر هو ما يحدد أحداث الأرض المنسوبة للسماء، بينما جبران أو الهرة الماكرة تنسب أن أحداث السماء هي نتيجة أحداث الأرض وقد تتشابه معها. لهذا على العبيد أن يحرروا أنفسهم لكي يتحرروا في حياتهم الأبدية.. فالتغيير يبدأ من هذه اللحظة، لهذا علي العبيد ألا يتكاسلوا أو يستمروا في الخضوع -هذا ما قدمه جبران من حل للعبيد.

وبمجرد أن خطرت هذه الفكرة في حوار العبيد والهرة حتى جاءت إشارة إلهية واضحة الدلالة:

 

"وفي تلك اللحظة تحركت الملكة في نومها فسقط تاجها على الأرض فقال واحد من العبيد: "إن في ذلك لشؤماً!" "

 

    التاج هنا يعني السلطة أو وسام الفخر والاعتزاز والجبروت التي تتحلى به الملكة، وحينما سقط، فهذه دلالة على أن الحل لن يكون إلا بتحرك العبيد وثورتهم لأنفسهم، ولكن كان البؤس هو حليف العبيد الذي تشاؤم واحد منهم في هذه اللحظة، ولم يستبشر غيره بها.. وهكذا الإنسان حينما يكون مستيقظ وغير غافي أو نائم فهو يكره ما ينفعه، ويحب ما لاينفعه، حتى وقت اليقظة والوعي كما العبيد كانوا واعيين بحالهم ويمكن أن يقوموا بفعل ما قبل أن نستيقظ الحيزبونه النائمة الغافلة.. ولكن كما جاء في القرآن ((..وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ..)) [البقرة / 216]

لهذا قالت الهرة لهم:

 "مصائب قوم عند قوم فوائد"

لكن العبيد لم يفهموا ذلك، وفي هذه العبارة، أبدع الكاتب، حيث أنه يمكن تحليله من جانب الملكة المتسلطة، وكذلك من جانب العبيد الضعاف. فمصائب العبيد تعتبر فوائد للملكة من أجل تمجيد مُلكها. ومصائب الملكة -وهو سقوط ملكها الذي هو تاجها- يمكن أن يستفيد منه العبيد لو أنهم تقبلوا فكرة تحررهم.

وهنا نكون قد تحدثنا عن أطراف القصة، فأترككم في رحلة قد تكون قصيرة، لتمسكوا زمام التحليل بأنفسكم:

 

"فقال العبد الثاني: "ماذا يحل بنا إذا أفاقت الآن من نومها ورأت تاجها ساقطاً على الأرض ؟ والله أنها تذبحنا جميعنا !"
فماءت الهرة قائلة: "قد كانت تذبحكم منذ ميلادكم وأنتم لا تعلمون."
وقال العبد الثالث: "إنها ولا شك تذبحنا، وتعتبر انها بعملها إنها تقرب عبادة لآلهتها.
 فماءت الهرة قائلة: "لا يضحي للآلهة إلا الضعفاء."

 أما العبد الرابع فأسكت رفقاءه عن الكلام، و التقط التاج بتأنّ ووضعه على رأس الملكة من غير أن يوقظها.

فماءت الهرة  و قالت بصوت عال: "الحق أقول لكم إنه لا يلتقط التيجان المتدحرجة سوى العبيد"

وبعد هنيهة استيقظت الملكة، وتلفتت حواليها متثائبة ثم قالت لعبيدها: "يخيّل إليّ إني حلمت بأني رأيت أربع حشرات يطاردها عقرب حول جذع سنديانة جبارة. قبحه الله من حلم مزعج!"
وأطبقت عينيها فنامت ثانية بعد أن ملأت القاعة بغطيطها، فطفق العبيد الأربعة يروحون لها على جاري عادتهم.

أما الهرة فماءت قائلة: "روّحوا، روّحوا أيها العميان والأغبياء، فأنتم لا تروّحون إلا ناراً تلتهم وجودكم!" "

* * *

أحمد الفرحان
10-10-2010

طباعة الصفحة من أجل طباعة الصفحة، تحتاج إلى قارئ PDF

 

 

 

للاتصال بنا

ahmad@baytalsafa.com

أحمد الفرحان -الكويت.

 

 

 

facebook

أحمد الفرحان

مجموعة الاسقاط النجمي

مجموعة التحكم بالأحلام

 

 

 

 

 

"لو كان الفقر رجل لقتلته" رغم حجم الصدقات التي يدفعها الشعب البترولي. إلا أن لا زال الفقر والمرض والطمع موجود. نحتاج إلى حياة جديدة تنفض الغبار لتنتعش الإنسانية من جديد.

مالك أمانة، فانتبه أين تصرفه.. للسلاح أم للسلام.

 

الدعم المعنوي لا يقل أبدا عن الدعم المادي، لأن كلاهما يعبران عن قدرتنا على صنع واقع صحي جديد.

 

 

____________________________

جميع الحقوق محفوظة بالملح وبعلب صحية