|
|||||||||
> الصفحة الرئيسية - الحكمة - جبران خليل جبران |
|||||||||
بنت الأسد
* * * جبران خليل جبران شرح المقال
ما تقدمه هذه الهرة في كلامها أن بشاعة الملكة وهي نائمة في لاوعيها أو في جهالتها أو غفوتها لا تُحسب أنها من بشاعة العبيد وهم مستيقظون نفسها.. الملكة هنا تمثل أي شيء عالي المقام اجتماعيا أو اقتصاديا أو علمياً، وكذلك العبيد يمثلون طبقة أدنى من سابقتها. وأرى أن الكاتب بهذه الأسطر ينتقد الطبقات الاجتماعية كلها، ولم يقصد الطبقة الأدنى فقط، ولو تحيز قليلا ليثير الثورة في قلوب من ينتمي للطبقة الدنيا. فالملكة ومع ملكها وثروتها الذي تحت سيطرتها وبحوزتها، تجهل بشاعتها حينما تنام، فالنوم يمثل حالة السبات أو الجهل أو الغفوة الذي نجده كثيرا ما يسيطر على من يلعب دور الأعلى بين الآخرين. أما الهرة فتلعب دور الوزير أو الحَكَم، الذي يكون عارف ببشاعة طبقتي الدنيا والعليا، ولكنها حكمت في هذا الفصل أن بشاعة الملكة الحيزبون وهي لا تجري عن حالها، لاواعية، جاهلة أو غير مدركة، ليست مثل بشاعة العبيد وهم يلعبون دور العبيد الذليلين وهم يعرفون حالهم ولا يحاولون أن يغيروا من واقعهم بشيء. كذلك انتقد بكلمات أشد الطبقة الأدنى، لأنها تعلم بعبودية نفسها، ولم تحاول التغيير، لهذا فقد وصف السلبية للطبقة الأعلى ببشاعة الجهل، بينما وصف الطبقة الأدنى ببشاعة أشد وأكثر شناعة لأنها مرافقة لوعي ومعرفة بذلك البشاعة والدناءة والعبودية.
هنا كذلك يوجه الكاتب نقده إلى الطبقة الدنيا وهم العبيد الذين لا يرون النقص الذي فيهم بل دائما ما ينظرون إلى سلبيات الطبقة الأخرى دون الالتفاف لحالهم، حيث قال العبد الثاني أن النوم -وهو الجهل- لم يلطف ملامح وجهها، أي لم يجعل (الغفوة) وسيلة لظهور البراءة على ملامح الملكة، كما تظهر الغفوة -عادة- أو حالة "اللاعلم" لدي الأطفال براءتهم المشعة في وجوههم. بل قد نسب هذا العبد أن الشر لم ينتهي عند الحيزبونة بعد، بل تبلور ما خُّزِنَّ داخلها على صورة حلم شرير مرعب. لكن قابلت هذه الأفكار، أفكار الهرة التي سخرت منهم حينها وقالت لهم وبكلمات أخرى، أنه من الجيد لكم لو استطعتم النوم.. بل لو استطعتم النوم والحلم في حريتكم، وذلك لأنكم إذا شرّحنا عقولكم وقلوبكم، قد لا نجد للحرية أي أثر داخلكم حتى تستطيعون النوم والحلم بها. ثم..
بعد جملة ظن ألقاها العبد الثالث، وأعقبه لوم زميله الرابع وسؤالهم عن غبائهم وحديثهم الغبي الغريب. فحديثهم هذا والحيزبونة لا تدري عنه لن يجدي نفعاً، ولا يمكن اعتباره وسيلة لضياع الوقت وقتله، وهم واقفون يروّحون بمراوحهم التي قد تكون من الريش. فتدخلت الهرة في الحديث هذا، وبأسلوب أكثر مرارة، حيث حكمت الهرة على أنهم سيلوّحون بالمراوح من أجل الملكة إلى الأبد، لأنه قد قيل أن (الذي يكون في الأرض سيكون في السماء) أي أن ما تصنعونه أنتهم وتعيشونه على الأرض، سيكون كذلك في حياتكم الأبدية في السماء. وهذا القول المأثور عكسه الكاتب، فهو قول مأثور عن الصلاة الربانية في الديانة المسيحية كما نص القول في الإنجيل: "لتكن مشيئتك على الأرض، كما هي في السماء" وذلك في الإصحاح السادس من إنجيل متى. فعبارة جبران تصرح؛ أن حالنا في الأرض هو الذي يقرر حالنا في السماء، بينما عبارة الإنجيل كانت تصرح؛ وتنسب أحداث الأرض إلى السماء. ولكن الكاتب أعطانا أمر آخر مغاير لذلك في الموضع نفسه، حيث لم يعبر الكاتب عن الفكرة شخصيا، بل جعل الهرة تحمل هذه الفكرة، وهي التي قد تكون مكّارة أو لها منطق مغاير للحقيقة أو حتى قد تكون قد أصابت حقاً.. وهي أن الإنسان على الأرض هو الذي يحدد قدره، فإنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وهنا يوجه الكاتب فكرته للعبيد أو الخاضعين لأي نظام مسيطر جبار، أنه لن تتغير حالتكم ويمكن أن تستمروا عبيد إلى مالانهاية، لأنكم تكتبون ذلك على أنفسكم، ولن يتغير قدركم إلا أن تتغير تصرفاتكم الآنية -الآن- في هذه اللحظة. وهنا يناقض جبران أو يقدم لنا منطق آخر عن المنطق الإنجيلي، وهو منطق أن القدر هو ما يحدد أحداث الأرض المنسوبة للسماء، بينما جبران أو الهرة الماكرة تنسب أن أحداث السماء هي نتيجة أحداث الأرض وقد تتشابه معها. لهذا على العبيد أن يحرروا أنفسهم لكي يتحرروا في حياتهم الأبدية.. فالتغيير يبدأ من هذه اللحظة، لهذا علي العبيد ألا يتكاسلوا أو يستمروا في الخضوع -هذا ما قدمه جبران من حل للعبيد. وبمجرد أن خطرت هذه الفكرة في حوار العبيد والهرة حتى جاءت إشارة إلهية واضحة الدلالة:
التاج هنا يعني السلطة أو وسام الفخر والاعتزاز والجبروت التي تتحلى به الملكة، وحينما سقط، فهذه دلالة على أن الحل لن يكون إلا بتحرك العبيد وثورتهم لأنفسهم، ولكن كان البؤس هو حليف العبيد الذي تشاؤم واحد منهم في هذه اللحظة، ولم يستبشر غيره بها.. وهكذا الإنسان حينما يكون مستيقظ وغير غافي أو نائم فهو يكره ما ينفعه، ويحب ما لاينفعه، حتى وقت اليقظة والوعي كما العبيد كانوا واعيين بحالهم ويمكن أن يقوموا بفعل ما قبل أن نستيقظ الحيزبونه النائمة الغافلة.. ولكن كما جاء في القرآن ((..وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ..)) [البقرة / 216] لهذا قالت الهرة لهم:
لكن العبيد لم يفهموا ذلك، وفي هذه العبارة، أبدع الكاتب، حيث أنه يمكن تحليله من جانب الملكة المتسلطة، وكذلك من جانب العبيد الضعاف. فمصائب العبيد تعتبر فوائد للملكة من أجل تمجيد مُلكها. ومصائب الملكة -وهو سقوط ملكها الذي هو تاجها- يمكن أن يستفيد منه العبيد لو أنهم تقبلوا فكرة تحررهم. وهنا نكون قد تحدثنا عن أطراف القصة، فأترككم في رحلة قد تكون قصيرة، لتمسكوا زمام التحليل بأنفسكم:
* * *
أحمد الفرحان
| |||||||||
|