Facebook Login JavaScript Example

 

 

 
 

> الصفحة الرئيسية - الحكمة - جبران خليل جبران

 

 

اليقظة الأخيرة

 

 

في غلس الليل العميق، وقد هب النسيم معطراً بأنفاس الفجر الأولى، نهض (السابق) –وهو صدى الصوت الذي لم تسمع به أذن بعد– فترك مقصورته وصعد إلى سطح بيته. وبعد أن وقف هنالك طويلاً ينظر إلىالمدينة الهاجعة في سكينة الليل، رفع رأسه، وكأنما قد تجمعت حواليه أرواح أولئك النائمين المستيقظة، وفتح فاه وخاطبهم قائلاً:

"يا إخوتي وجيراني، ويا أيها المارّون ببابي في كل يوم، إنني أودّ أن أناجيكم في نومكم، وفي وادي أحلامك، أود أن أمشي مطلقاً عارياً، فإن ساعات يقظتكم أشدّ غفلة من نومكم، وآذانكم المثقلة بالضجيج كليلة صماء.

لقد احببتكم كثيرا وفوق الكثير.
وقد أحببت الواحد منكم كما لو كان كلكم،
وأحببتكم جميعاً كما لو كنتم واحداً.

ففي ربيع قلبي كنت أترنم في جنانكم،
وفي صيف قلبي كنت أحرس بيادركم.

 أجل لقد أحببتكم جميعكم، جاركم وصعلوككم، أبرصكم وصحيحكم، وأحببت من يتلمّس منكم سبيله في الظلام، كمن يرقص أيامه على الجبال والآكام.

أحببتك أيها القوي، مع أنّ آثار حوافرك الحديدية لا تزال ظاهرة في لحمي.
وأحببتك أيها الضعيف على رغم أنك جففت إيماني، وعطلت عليّ صبري.

أحببتك أيها الغني، في حين أن عسلك كان علقماً ف فمي. وأحببتك أيها الفقير مع أنك عرفت عوزي وفراغ ذات يدي.

أحببتك أيها الشاعر المقلد، الذي يستهير قيثارة جاره ليضرب عليها بأصابعه العمياء، أحببتك كرماً ولطفاً. وأحببتك أيها العالم الدائب عمره في جمع الأكفان الرثة من حقل الخزّاف الممقوت.

أحببتك أيها الكاهن الجالس في سكون أمسه متسائلاً عن مصير غده.
وأحببتك أها العابد الذي يتخذ له من أِباح وغائبه آلهة يعبدها.

أحببتك أيتها المرأة، المتعطشة وكأسها مملوؤة أبداً، لأنني عرفت سرّكِ.
وأببتك أيتها المرأة الساهرة لياليها، مشفقاً عليكِ.

أحببتكَ أيها الثرثار قائلا في نفسي: (إن للحياة كثيرا فتقوله).
 وأحببتك أيها الأبكم قائلاً ففي سري: (حبذا لو أسمع نطقاً يعبر عمّا في صمته).

أحببتك أيها القاضي والناقد، ولكنكما عندما رأيتماني مصلوبا قلتما : (ما ألطف نزف دمائه من عروقه، وما أجمل الخطوط التي ترسمها في مسيلها على جلده الناصع!).

أجل، أحببتكم جميعكم، فتاكم وشيخكم.
وأحببت قصبتكم المرتجفة كسنديانتكم الجبارة الراسخة،
ولكن وا أسفاه فإن قلبي الطافح بحبكم قد حول قلوبكم عني،
لأن في وسعكم أن ترتشفوا خمرة المحبة من القدح الصغير ولكنكم لا تقوون على شربها من النهر القياض.
إنكم تستطيعن أن تسمعوا صوت المحبة عندما تهمس في آذانكم،
ولكنكم تصمون آذانكم عندما تصيح المحبة مهللة بأعلى صوتها.

وعندما رأيتكم أنني قد أخببتكم جميعكم بالسويّة. تهكمتم قائلين: (ما أسهل انقياد قلبه، وما أبعد الفطنة عن مسالكه! إن محبته هذه محبة متسوّل جائع، قد تعوّد التقاط الفتات، ولو كان جالياً إلى موائد الملوك، بل هي مبة ضعيف حقير، لأن القوي لا يحب إلأا الأقوياء.)

وعندما رأيتم أنني أحببتكم حباً مفرطاً قلتم: إن محبته هذه محبة أعمى لا يميز بين جمال الواحد وبشاة الآخر، بل هي محبة عديم الذوق، الذي يشرب الخل كأنه يشرب الخمر. بل إنما هي محبة فضوليّ مّعٍ، إذ أي غريب يستطيع أن يحبّنا كأبينا وأمّنا وأختنا وأخينا؟

وهذه أقوالكم وغيرها كثير، لأنكم طالما أشرتم إليّ بأصبعكم في شوارع المدينة وساحاتها وقلتم بعضكم لبعض ساخرين:

"بربكم انظروا الصغير الكبير الذي لا يعبأ بالفصول والسنين، فهو عند الظهيرة يلاعب أولادنا، وعند المساء يجالس شيوخنا، مدعياً الحكمة والفهم"

أما أنا فكنت أقول في قلبي: (لا بأس في ذلك، فإنني سأحبهم أكثر فأكثر. ولكني سوف أسدل على محبتي ستاراً من البغض، و أستر عطفي بشديد كرهي. وسأتبرقع ببرقع منحديد، ولا أسعى وراءهم إلا مسلحا مدرعاً.)

وبعد ذلك ألقيت يداً ثقية على رضوضكم وجراحكم، وكما تعصف العاصفة في الليل رعدتُ في آذانكم.
ومن على السطوح قد أذعتكم للملأ فريسيين مرائين خداعين، وفقاقيع أرض كاذبة فارغة.
قد لعنت قاصري النظر فيكم كما تلعن الخفافيش العمياء.
وشبّهت الملتصقين بالأرض والأدنياء منكم بالمناجذ العادمة النفوس.

أم الفصحاء والبلغاء بينكم فدعوتهم متشعبي الألسنة، ودعوت الصامت الساكن فيكم متحجر القلب و الشفتين، وقلت في البسيط الساذج: (إن الأموات لا يملون الموت).

قد حكمت على الساعين وراء المعرفة البشرية منكم ومن أبنائكم كمجذفين على الروح القدس، وحكمت أيضاًعلى المأخوذين والمجذوبين بحب الأرواح وما وراء الطبيعة كمصطادي أشباح، يرمون شباكهم في مياه راكدة، ولا يصطادون سوى ظلالهم البليدة.

كذا شهّرتكم بشفتي، ولكن قلبي، والدماء تنزف منه، كن يدعوكم بأرقّ الأسماء وأحلاها.

أجل أيها الأصحاب و الجيران، فإن المحبة قد خاطبتكم مسوقةً بسياط ذاتها،
والكبرياء قد رقصت أمامكم متعفّرة بغبار خيبتها مذبوحة بآلامها،
وتعطشي لمحبتكم قد ثار ثائره على السطوح،
ولمكن محبتي كانت تسألكم صفحاً وهي راكعة صامتة.

ولكن إليكم المعجزة يا قوم:
إن تستّري قد فتح عيونكم، وبغضي قد أيقظ قلوبكم.
والآن أنتم تحبونني!
إنّكم لا تحبون سوى السيوف التي تطعن قلوبكم والسهام التي تخرق صدوركم،
لأنكم لا تتعزّون إلا بجراحكم، ولا تسكرون إلا بخمرة دمائكم.

وكما يتجمع الفراش حول اللهيب. ساعياً وراء حتفه، تجتمعون أنتم كل يوم في حديقتي، وبوجوه مرتفعة، وعيون شاخصة. تراقبونني وأنا أمزّق نسيج أيامكم، فتتهامسون فيما بينكم قائلين:

إنه يبصر بنور الله، ويتكلم كأنبياء المتقدمين، فيحسر القناع عن نفوسنا، ويحطم أقفال قلوبنا، وكما يعرف النسر مسالك الثعالب، يعرف هو أيضاً طرقنا ومسالكنا.

بلى، فإنني بالحقيقة أعرف طرقكم، ولكن كما يعرف النسر طرق فراخه. وإنني، بمسرة قلب، قد كفت لكم سري، ولكنني لحاجة بي إلى قربكم، أتظاهر بالجفاء، وخوفاً مني على دنو قضاء محبتكم أقوم على حراسة سدود محبتي."

وبعد أن فرغ (السابق) من كلامه غطى وجهه بيديه وبكى بكاءً مراً، لأنه أدرك في قلبه أن المحبة المحتقرة في عريها لأعظم من المحبة التي تنشد الظفر في تسترها وتنكرها، وخجل إذ ذاك منذاته.

ثم رفع رأسه بغتةً، وكأنه أفاق من نوم عميق، وبسط ذراعيه وقال: "ها قد ولىّ الليل، ونحن أولاد الليل، يجب أن نموت عندما يأتي الفجر متوكّئاً على التلال، وستبعث من رمادنا محبة أقوى محبتنا، و ستضحك في نور الشمس، وستكون خالدة."

 

* * *

جبران خليل جبران

شرح المقال

في هذا العمل يسرد جيران حالة مع أهل مدينته، أو محيطينه -كما أراه-.. هذه الكلمات الصريحة والمباشرة ليست غريبة على جبران، وكثيراً ما نقرأ رأيه في الآخرين وعباراته الصريحة في رفض واقعهم وتمرده على هذا الواقع، حيث يقول "لكم لبنانكم ولي لبناني" أو مسيحكم ضعيف، إنما مسيحي قوي..إلخ غيرها من العبارات المباشرة.

    هذا عمل من أعمال جبران الذي يخاطب به الآخرين، بحيث يصفهم كما يراهم هو وقد وضع هذا في قالب من الفانتازيا، أو الرمزية الصوفية لكي لا تكون حجة عليه حينما لا تطابق كلماته الواقع بشكل صريح.

وإن لم يكن ذلك، فإنه يصور جانب من جوانب النفس البشرية، خاصة أنه يرى بأن الحب هو أساس الحياة ولهذا ختم الكتاب هذا (السابق) بمقال عن الحب المثالي اللامشروط، كما سوف نرى ويعكس ذلك ما يراه في الحب.. دعونا نقرأ ونتفكر في ما كتب..

    "في غلس الليل العميق، وقد هب النسيم معطراً بأنفاس الفجر الأولى، نهض (السابق) – وهو صدى الصوت الذي لم تسمع به أذن بعد – فترك مقصورته وصعد إلى سطح بيته. وبعد أن وقف هنالك طويلاً ينظر إلىالمدينة الهاجعة في سكينة الليل، رفع رأسه، وكأنما قد تجمعت حواليه أرواح أولئك النائمين المستيقظة، وفتح فاه وخاطبهم.."

    في عمق الليل، باقتراب الفجر، نهض "السابق" -وهو اسم الكاتب، لفظ أطلقه جبران على كل فرد، وقد تم التطرق لهذا في المقال الأول "أنت سابق نفسك".. ولهذا فالشخص الذي يتحدث عنه جبران، ويعكس جانب كبير من شخصه هو. السابق هو الشخص الذي لم يظهر بعد، هي الذات العليا التي لم يصل لها الشخص، حيث يقول "أنت سابق نفسك" وهذا ما يعكس فلسفته المثالية أو الكمالية، كما انه اختار هذا المعنى للدلالة إلى إيمانه بالتقمص. إذ كل فرد وارادته تسبقه للحياة الأخرى، وتحدد ملامحها، وهذه الإراده نحددها نحن ((الآن)) بوجود النفس معنا.. وهكذا يمكن أن نستوعب شخص "السابق" في هذا المقال بأنه الضمير والذات الإنسانية التي تسبق صاحبها وترتدي أكثر من لباس وشخصية -حسب مبدأ التقمص-.. هذا السابق الذي نحن بصدده يعرفه جبران بأنه "هو صدى الصوت الذي لم تسمع به أذن بعد"، وبعج أن وقف وتجمعت أرواح النائمين إليه، خاطبهم وقال:

    "يا إخوتي وجيراني، ويا أيها المارّون ببابي في كل يوم، إنني أودّ أن أناجيكم في نومكم، وفي وادي أحلامك، أود أن أمشي مطلقاً عارياً، فإن ساعات يقظتكم أشدّ غفلة من نومكم، وآذانكم المثقلة بالضجيج كليلة صماء."

ويقصد بالعري، هو أن يكون صريحا بفطرته، بعيدا عن الأقنعة والمجاملات، بحيث أراد أن يعبر عن نفسه ويكون على طبيعته بعيدا عن كل شيء من صنع البشر، كالأعراف الاجتماعية أو الدينية أو القانونية. فقال:

 "لقد احببتكم كثيرا وفوق الكثير.
وقد أحببت الواحد منكم كما لو كان كلكم،
وأحببتكم جميعاً كما لو كنتم واحداً.

 ففي ربيع قلبي كنت أترنم في جنانكم،
وفي صيف قلبي كنت أحرس بيادركم.

 أجل لقد أحببتكم جميعكم، جاركم وصعلوككم، أبرصكم و صحيحكم، وأحببت من يتلمّس منكم سبيله في الظلام، كمن يرقص أيامه على الجبال والآكام.

 أحببتك أيها القوي، مع أنّ آثار حوافرك الحديدية لا تزال ظاهرة في لحمي.
وأحببتك أيها الضعيف على رغم أنك جففت إيماني، وعطلت عليّ صبري.

    أحببتك أيها الغني، في حين أن عسلك كان علقماً ف فمي. وأحببتك أيها الفقير مع أنك عرفت عوزي وفراغ ذات يدي.

أحببتك أيها الشاعر المقلد، الذي يستهير قيثارة جاره ليضرب عليها بأصابعه العمياء، أحببتك كرماً ولطفاً. وأحببتك أيها العالم الدائب عمره في جمع الأكفان الرثة من حقل الخزّاف الممقوت.

أحببتك أيها الكاهن الجالس في سكون أمسه متسائلاً عن مصير غده.
وأحببتك أها العابد الذي يتخذ له من أِباح وغائبه آلهة يعبدها.

أحببتك أيتها المرأة، المتعطشة وكأسها مملوؤة أبداً، لأنني عرفت سرّكِ.
وأببتك أيتها المرأة الساهرة لياليها، مشفقاً عليكِ.

 أحببتكَ أيها الثرثار قائلا في نفسي: (إن للحياة كثيرا فتقوله).
وأحببتك أيها الأبكم قائلاً ففي سري : (حبذا لو أسمع نطقاً يعبر عمّا في صمته).

    أحببتك أيها القاضي والناقد، ولكنكما عندما رأيتماني مصلوبا قلتما : (ما ألطف نزف دمائه من عروقه، وما أجمل الخطوط التي ترسمها في مسيلها على جلده الناصع !).

    أجل، أحببتكم جميعكم، فتاكم وشيخكم.
وأحببت قصبتكم المرتجفة كسنديانتكم الجبارة الراسخة..."

نجد أن هذا الحب المثالي، الكامل، الرحيم، غير مشروط.. نابع من طبقة أعلى من طبقة العواطف الانفعالية الزائلة. فالحب الذي نعيشه ذو وجهان، الأول هو الحب بنفسه، والوجه الآخر هو الكره أو الحقد؛ أحب جمالك ولكني أكره سلبياتك، أحب قربك ولكني أكره الشوق إليك والبعد عنك، أحب السلام ولكني أكره الحرب..إلخ.

الحب الذي يصفه جبرانظن وأظن أنه يعيشه، هو المحبة وليس الحب. المحبة التي ليس لها نظير، بدون "وشو وقفا" بل هي واحدة كما هو النور والماء والهواء واحد.. كما هي الرحمة التي تنطوي بداخلها الجنة والنار.

ولكن طبيهة البشر كما نحن كلنا، لا نجاري من يحبنا، بل نبحث عمن تحبه أنفسنا، ولهذا كان رد الفعل عند الناس حيث يصفه:

 

"..ولكن وا أسفاه فإن قلبي الطافح بحبكم قد حول قلوبكم عني،
لأن في وسعكم أن ترتشفوا خمرة المحبة من القدح الصغير ولكنكم لا تقوون على شربها من النهر القياض.
إنكم تستطيعن أن تسمعوا صوت المحبة عندما تهمس في آذانكم،
ولكنكم تصمون آذانكم عندما تصيح المحبة مهللة بأعلى صوتها.

وعندما رأيتكم أنني قد أخببتكم جميعكم بالسويّة. تهكمتم قائلين: (ما أسهل انقياد قلبه، وما أبعد الفطنة عن مسالكه! إن محبته هذه محبة متسوّل جائع، قد تعوّد التقاط الفتات، ولو كان جالياً إلى موائد الملوك، بل هي مبة ضعيف حقير، لأن القوي لا يحب إلا الأقوياء.)

وعندما رأيتم أنني أحببتكم حباً مفرطاً قلتم: إن محبته هذه محبة أعمى لا يميز بين جمال الواحد وبشاة الآخر، بل هي محبة عديم الذوق، الذي يشرب الخل كأنه يشرب الخمر. بل إنما هي محبة فضوليّ مّعٍ، إذ أي غريب يستطيع أن يحبّنا كأبينا وأمّنا وأختنا وأخينا؟"

    هذه هي طبيعة البشرية، فكما آدم لم يستوعب الحقيقة العلية الواحدة الكلية، اكل من التفاحة وأخذ يغوص في متاهة الإزدواجية، والنقص والفناء، حتى يعي حقيقة الخلود والبقاء.. لم يستوعب الناس المحبة الواحدة الخالصة من دون تناقض، المحبة التي ليس لها "وشو وقفا".. بل هي واحدة من دون نظير ولهذا تعجبوا كيف له أن يحب الملك والفقير، العالم والجاهل معا..!!

 

    "وهذه أقوالكم وغيرها كثير، لأنكم طالما أشرتم إليّ بأصبعكم في شوارع المدينة وساحاتها وقلتم بعضكم لبعض ساخرين:

    "بربكم انظروا الصغير الكبير الذي لا يعبأ بالفصول والسنين، فهو عند الظهيرة يلاعب أولادنا، وعند المساء يجالس شيوخنا، مدعياً الحكمة والفهم""

 

ولكن "السابق" أراد أن يلعب لعبة ما، كما هي الألوهية التي تغلف رحمتها بنار جهنم، وهكذا كان السابق:

 

    "أما أنا فكنت أقول في قلبي: (لا بأس في ذلك، فإنني سأحبهم أكثر فأكثر. ولكني سوف أسدل على محبتي ستاراً من البغض، و أستر عطفي بشديد كرهي. وسأتبرقع ببرقع منحديد، ولا أسعى وراءهم إلا مسلحا مدرعاً.)

وبعد ذلك ألقيت يداً ثقية على رضوضكم وجراحكم، وكما تعصف العاصفة في الليل رعدتُ في آذانكم.

ومن على السطوح قد أذعتكم للملأ فريسيين مرائين خداعين، وفقاقيع أرض كاذبة فارغة.

قد لعنت قاصري النظر فيكم كما تلعن الخفافيش العمياء.

وشبّهت الملتصقين بالأرض والأدنياء منكم بالمناجذ العادمة النفوس.

  أم الفصحاء والبلغاء بينكم فدعوتهم متشعبي الألسنة، ودعوت الصامت الساكن فيكم متحجر القلب و الشفتين، وقلت في البسيط الساذج: (إن الأموات لا يملون الموت).

    قد حكمت على الساعين وراء المعرفة البشرية منكم ومن أبنائكم كمجذفين على الروح القدس،

وحكمت أيضاًعلى المأخوذين والمجذوبين بحب الأرواح وما وراء الطبيعة كمصطادي أشباح، يرمون شباكهم في مياه راكدة، ولا يصطادون سوى ظلالهم البليدة.

كذا شهّرتكم بشفتي، ولكن قلبي، والدماء تنزف منه، كن يدعوكم بأرقّ الأسماء وأحلاها."

 

وأخذ يلعب لعبة الإزدواجية ويناقظ الكل، فالحكماء دعاهم بالمجذفين بالدين، والروحانيين دعاهم بصائدي الإشباع والبلغاء دعاهم بمتشعبي الألسنة..

وهنا ندرك حكمة جبران وحنقة في الكتابة واللعب بالمنطق والمنطق البديل، أي أن يعطي المعنى وينقضه وهذا نادر الحدوث في شخص واحد..

 "أجل أيها الأصحاب و الجيران، فإن المحبة قد خاطبتكم مسوقةً بسياط ذاتها،
والكبرياء قد رقصت أمامكم متعفّرة بغبار خيبتها مذبوحة بآلامها،
وتعطشي لمحبتكم قد ثار ثائره على السطوح،
ولكن محبتي كانت تسألكم صفحاً وهي راكعة صامتة."

وبعد سماع ذلك الكلام، لقد احبوا "السابق" الذي ظهر بصورة الحكيم الواعي المناقض لكل ما هو موجود، المستغني عن العارفين والروحانيين والفصحاء..إلخ. وهكذا تبعه الناس وأحبوه..

     "...والآن أنتم تحبونني!
إنّكم لا تحبون سوى السيوف التي تطعن قلوبكم والسهام التي تخرق صدوركم،
لأنكم لا تتعزّون إلا بجراحكم، ولا تسكرون إلا بخمرة دمائكم."

ويؤكد ما وصلنا له من معنى، عندما نقرأ ما كتبه جبران هنا:

"وكما يتجمع الفراش حول اللهيب. ساعياً وراء حتفه، تجتمعون أنتم كل يوم في حديقتي، وبوجوه مرتفعة، وعيون شاخصة. تراقبونني وأنا أمزّق نسيج أيامكم، فتتهامسون فيما بينكم قائلين:

إنه يبصر بنور الله، ويتكلم كأنبياء المتقدمين، فيحسر القناع عن نفوسنا، ويحطم أقفال قلوبنا، وكما يعرف النسر مسالك الثعالب، يعرف هو أيضاً طرقنا ومسالكنا.

بلى، فإنني بالحقيقة أعرف طرقكم، ولكن كما يعرف النسر طرق فراخه. وإنني، بمسرة قلب، قد كفت لكم سري، ولكنني لحاجة بي إلى قربكم، أتظاهر بالجفاء، وخوفاً مني على دنو قضاء محبتكم أقوم على حراسة سدود محبتي."

وبعد أن فرغ (السابق) من كلامه غطى وجهه بيديه وبكى بكاءً مراً، لأنه أدرك في قلبه أن المحبة المحتقرة في عريها لأعظم من المحبة التي تنشد الظفر في تسترها وتنكرها، وخجل إذ ذاك منذاته.

ثم رفع رأسه بغتةً، وكأنه أفاق من نوم عميق، وبسط ذراعيه وقال: "ها قد ولىّ الليل، ونحن أولاد الليل، يجب أن نموت عندما يأتي الفجر متوكّئاً على التلال، وستبعث من رمادنا محبة أقوى محبتنا، و ستضحك في نور الشمس، وستكون خالدة.""

 

* * *

أحمد الفرحان
17-9-2011

 

طباعة الصفحة من أجل طباعة الصفحة، تحتاج إلى قارئ PDF

 

 

للاتصال بنا

ahmad@baytalsafa.com

أحمد الفرحان -الكويت.

 

 

 

facebook

أحمد الفرحان

مجموعة الاسقاط النجمي

مجموعة التحكم بالأحلام

 

 

 

 

 

"لو كان الفقر رجل لقتلته" رغم حجم الصدقات التي يدفعها الشعب البترولي. إلا أن لا زال الفقر والمرض والطمع موجود. نحتاج إلى حياة جديدة تنفض الغبار لتنتعش الإنسانية من جديد.

مالك أمانة، فانتبه أين تصرفه.. للسلاح أم للسلام.

 

الدعم المعنوي لا يقل أبدا عن الدعم المادي، لأن كلاهما يعبران عن قدرتنا على صنع واقع صحي جديد.

 

 

____________________________

جميع الحقوق محفوظة بالملح وبعلب صحية