Facebook Login JavaScript Example

 

 

 
 

> الصفحة الرئيسية - الحكمة - جبران خليل جبران

 

 

وعظتني نفسي

 

 

وعظتني نفسي فعلمتني حب ما يمقته الناس ومصافاة ما يضاغنونه و أبانت لي أن الحب ليس ميزة في المحب بل في المحبوب. وقبل أن تعضني نفسي كان الحب بي خيطاً دقيقاً مشدوداً بين وتدين متقاربين، أما الآن فقد تحول إلى هالة أولها آخرها وآخرها أولها تحيط بكل كائن وتتوسع ببطء لتضم كل ما سيكون.

وعظتني نفسي فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل و اللون و البشرة، وأن أحدق متبصراً بما يعده الناس شناعة حتى يبدو لي حسناً. وقبل أن تعظني نفسي كنت أرى الجمال شعلات مرتعشة بين أعمدة من الدخان و اضمحل فلم أعد أرى سوى ما يشتعل.

وعظتني نفسي فعلمتني الإصغاء إلى الأصوات التي لا تولدها الأسنة ولا تضج بها الحناجر. وقبل أن تعظني نفسي كنت كليل المسامع مريضها، لا أعي سوى الجلبة و الصياح، أما الآن فقد صرت أتوجس بالسكينة فأسمع أجواقها منشدة أغاني الدهور، مرتلة تسابيح الفضاء، معلنة أسرار الغيب.

وعظتني نفسي فعلمتني أن أشرب مما لا يعصر ولا يسكب بكؤوس لا ترفع بالأيادي ولا تلمس بالشفاه. وقبل أن تعظني نفسي كان عطشي شرارة ضئيلة في رابية من رماد أخمدها بعبة من الغدير أو برشفة من جرن المعصرة. أما الآن فقد صار شوقي كأسي، وغلتي شرابي، ووحدتي نشوتي، وأنا لا ولن أرتوي. ولكن في هذه الحرقة التي لا تنطفئ مسرة لا تزول.

وعظتني نفسي فعلمتني لمس ما لم يتجسد ولم يتبلور، وأفهمتني أن المحسوس نصف المعقول. وأن ما نقبض عله بعض ما نرغب فيه. وقبل أن تعظني نفسي كنت أكتفي بالحار إن كنت بارداً. والبارد إن كنت حاراً. و بأحدهما إن كنت فاتراً. أما الآن فقد انتثرت ملامسي المنكمشة وانقلبت ضباباً دقيقاً يخترق كل ما ظهر من الوجود ليمتزج بما خفي منه.

وعظتني نفسي فعلمتني  استنشاق ما لا تبثه الرياحين ولا تنشره المجامر. وقبل أن تعظني نفسي كنت إن اشتهيت عطراً طلبته من البساتين أو من القوارير أو المباخر. أما الآن فقد صرت أشم ما لا يحترق ولا يهرق. وأملأ صدري من أنفاس زكية لم تمر بجنة من جنان هذا العالم ولم تحملها نسمات من نسمات الفضاء.

وعظتني نفسي فعلمتني أن أقول (لبيك) عندما يناديني المجهول و الخطر. وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أنهض إلا لصوت مناد عرفته. ولا أسير إلا على سبل خبرتها فأستهونتها. أما الآن فقد أصبح المعلوم مطية أركبها نحو المجهول، والسهل سلماً أتسلق درجاته لأبلغ الخطر.

وعظتني نفسي فعلمتني ألا أقيس الزمن بقولي: كان بالأمس وسيكون غداً . وقبل أن تعظني نفسي كنت أتوهم الماضي عهداً لا يرد والأتي عصراً لم أصل إليه. أما الآن فقد عرفت أن في الهنيهة الحاضرة كل الزمن بكل ما في الزمن مما يرجى وينجز ويتحقق.

وعظتني نفسي فعلمتني ألا أحد المكان بقولي: هنا وهناك و هنالك. و قبل أن تعظني نفسي كنت إذا ما صرت في موضع في الأرض ظننتني بعيداً عن كل موضع آخر. أما الآن فقد علمت أن مكاناً أحل فيه هو كل مكان. وأن فسحة أشغلها هي كل المسافات.

وعظتني نفسي فعلمتني أن أسهر وسكان الحي راقدون. وأن أنام وهن منتبهون. وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أرى أحلامهم في هجعتي ولا يرصدون أحلام في غفلتهم. أما الآن فلا أسبح مرفرفاً في منامي إلا وهم يرقبونني ولا يطيرون في أحلامهم إلا وفرحت بانعتاقهم.

وعظتني نفسي فعلمتني أن لا أطرب لمديح ولا أجزع بمذمة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أظل مرتاباً في قيمة أعمالي وقدرها حتى تبعث إليها الأيام بمن يقرظها أو يهجوها. أما الآن فقد عرفت أن الأشجار تزهر في الربيع وتثمر في الصيف ولا مطمع لها بالثناء. وتنثر أوراقها في الخريف وتتعرى في الشتاء ولا تخشى الملامة.

وعظتني نفسي فعلمتني وأثبتت لي أنني لست بأرفع من الصعاليك، ولا أدنى من الجبابرة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أحسب الناس رجلين: رجلاً ضعيفاً أرق له أو أزدري به، ورجلاً فرداً مما كون البشر منه جماعة. فعناصري عناصرهم. وطويتي طويتهم. ومنازعي منازعهم. و محجتي محجتهم. فإن أذنبوا فأنا المذنب. وإن أحسنوا عملاً فاخرت بعملهم. وإن نهضوا نهضت وإياهم. وإن تقاعدوا تقاعدت معهم.

وعظتني نفسي فعلمتني أن السراج الذي أحمله ليس لي، والأغنية التي أنشدها لم تتكون في أحشائي. فأنا وإن سرت بالنور لست بالنور، وأنا وإن كنت عوداً مشدود الأوتار فلست بالعواد.

وعظتني نفسي يا أخي وعلمتني. ولقد وعظتك نفسك وعلمتك. فأنت وأنا متشابهان متضارعان. وما الفرق بيننا سوى أنني أتكلم عما بي وفي كلامي شيء من اللجاجة. وأنت تكتم ما بك وفي تكتمك شكل من الفضيلة.

* * *

مراجعة المقال

جبران خليل جبران

 

طباعة الصفحة من أجل طباعة الصفحة، تحتاج إلى قارئ PDF

 

 

 

للاتصال بنا

ahmad@baytalsafa.com

أحمد الفرحان -الكويت.

 

 

 

facebook

أحمد الفرحان

مجموعة الاسقاط النجمي

مجموعة التحكم بالأحلام

 

 

 

 

 

"لو كان الفقر رجل لقتلته" رغم حجم الصدقات التي يدفعها الشعب البترولي. إلا أن لا زال الفقر والمرض والطمع موجود. نحتاج إلى حياة جديدة تنفض الغبار لتنتعش الإنسانية من جديد.

مالك أمانة، فانتبه أين تصرفه.. للسلاح أم للسلام.

 

الدعم المعنوي لا يقل أبدا عن الدعم المادي، لأن كلاهما يعبران عن قدرتنا على صنع واقع صحي جديد.

 

 

____________________________

جميع الحقوق محفوظة بالملح وبعلب صحية