|
|||||||||
> الصفحة الرئيسية - الحكمة - جبران خليل جبران |
|||||||||
يا بني أمي
كانت في حديقة منفردة بنفسجة جميلة الثنايا، طيبة الرائحة، تعيش قانعة بين أترابها. وذات صباح.. وقد تكللت بقطر الندى.. رفعت رأسها.. ونظرت حواليها.. فرأت وردة تتطاول نحو السماء بقامة هيفاء.. ففتحت ثغرها..وقالت متنهدة: ما أقل حظي بين الرياحين! وما أوضع مقامي بين الأزهار! فقد خلقت حقيرة صغيرة..أعيش ملتصقة بأديم الأرض..ولا أستطيع أن أرفع قامتي نحو السماء.. أو أحول وجهي نحو الشمس كما يفعل الورد.
ماذا تريدون مني يا بني أمي؟
ماذا تريدون أن أفعل يا بني أمي؟ ناديتكم في سكينة الليل لأريكم جمال البدر وهيبة الكواكب فهببتم من مضاجعكم مذعورين وقبضتم على سيوفكم ورماحكم صارخين: أين العدوّ لنصرعه؟ عند الصباح وقد جاء العدوّ بخيله ورجله ناديتكم فلم تهبّوا من رقادكم بل ظللتم تغالبون مواكب الأحلام. قلت لكم تعالوا نصعد إلى قمة الجبل لأريكم ممالك العالم، فأجبتم قائلين: في أعماق هذا الوادي عاش آباؤنا وجدودنا وفي ظلاله ماتوا وفي كهوفه قبروا فكيف نتركه ونذهب إلى حيث لم يذهبوا؟ قلت لكم هلموا نذهب إلى السهول لأريكم مناجم الذهب وكنوز الأرض، فأجبتم قائلين: في السهول يربض اللصوص وقطاع الطرق. قلت لكم تعالوا نذهب إلى الساحل حيث يعطي البحر خيراته، فأجبتم قائلين: ضجيج اللجّة يخيف أرواحنا وهول الأعماق يميت أجسادنا. * * *
لقد كنت أحبكم يا بني أمي، و قد أضرّ بي الحب، ولم ينفعكم. واليوم صرت أكرهكم والكره سيل لا يجرف غير القضبان اليابسة ولا يهدم سوى المنازل المتداعية. كنت أشفق على ضعفكم يابني أمي والشفقة تكثر الضعفاء وتنمي عدد المتوانين ولا جدي الحياة شيئاً، واليوم صرت أرى ضعفكم فترتعش نفسي اشمئزازاً وتنقبض ازدراء. كنت أبكي على ذلكم وانكساركم وكانت دموعي تجري صافية كالبلور، ولكنها لم تغسل أدرانكم الكثيفة بل أزالت الغشاء عن عيني، ولا بللت صدوركم المتحجرة بل أذابت الجزع في قلبي، واليوم صرت أضحك من أوجاعكم والضحك رعود قاصفة تجيء قبل العاصفة ولا تأتي بعدها.
ماذا تريدون مني يا بني أمي؟ هلموا وتأملوا فقد جعل الخوف شعور رؤوسكم كالرماد، وعرك السهر عيونكم فأصبحت كالحفر المظلمة، ولمست الجبانة خدودكم فبانت كالخرق المتجعدة، وقبّل الموت شفاهكم فأمست صفراء كأوراق الخريف. ماذا تطلبون مني يا بني أمي - بل ماذا تطلبون من الحياة والحياة لم تعد تحسبكم من أبنائها؟ أرواحكم تنتفض في مقابض الكهان والمشعوذين، وأجسادكم ترتجف بين أنياب الطغاة والسفاحين، وبلادكم ترتعش تحت أقدام الأعداء والفاتحين، فماذا ترجون من وقوفكم أمام وجه الشمس؟ سيوفكم مغلفة بالصدأ، ورماحكم مكسورة المحراب، وتروسكم مغمورة بالتراب، فلماذا تقفون في ساحة الحرب والقتال؟ دينكم رياء و دنياكم ادعاء و آخرتكم هباء، فلماذا تحيون والموت راحة الأشقياء؟ * * * إنما الحياة عز يرافق الشبيبة، وجدّ يلاحق الكهولة، وحكمة تتبع الشيخوخة، أما أنتم يا بني أمي فقد ولدتم شيوخاً عاجزين ثم صغرت رؤوسكم وتقلصت جلودكم فصرتم أطفالاً تتقلبون على الأوحال و تترامون بالحجارة. إنما الإنسانية نهر بلوري يسير متدفقاً مترنماً حاملاً أسرار الجبال إلى أعماق البحر. أما أنتم يا بني أمي فمستنقعات خبيثة تدب الحشرات في أعماقها و تتلوى الأفاعي على جنباتها. إنما النفس شعلة زرقاء متقدة مقدسة تلتهم الهشيم وتنمو بالأنوار وتنير أوجه الآلهة - أما نفوسكم يا بني أمي فرماد تذريه الرياح على الثلوج وتبدده العواصف في الأودية. أنا أكرهكم يا بني أمي لأنكم تكرهون المجد و العظمة. أنا أحتقركم لأنكم تحتقرون أنفسكم. أنا عدوكم لأنكم أعداء الآلهة ولكنكم لا تعلمون!
* * * جبران خليل جبران
| |||||||||
|