|
|||||||||
> الصفحة الرئيسية - الحكمة - جبران خليل جبران |
|||||||||
البنفسجة الطموح
كانت في حديقة منفردة بنفسجة جميلة الثنايا، طيبة الرائحة، تعيش قانعة بين أترابها. وذات صباح.. وقد تكللت بقطر الندى.. رفعت رأسها.. ونظرت حواليها.. فرأت وردة تتطاول نحو السماء بقامة هيفاء.. ففتحت ثغرها..وقالت متنهدة: ما أقل حظي بين الرياحين! وما أوضع مقامي بين الأزهار! فقد خلقت حقيرة صغيرة..أعيش ملتصقة بأديم الأرض..ولا أستطيع أن أرفع قامتي نحو السماء..أو أحول وجهي نحو الشمس كما يفعل الورد. سمعت الوردة ما قالته جارتها البنفسجة.. فاهتزت ضاحكة.. وقالت: ما أغباك بين الأزهار! فأنت في نعمة.. ولكنك تجهلين قيمتها..لقد وهبك الله من الطيب والظرف والجمال ما ليس لكثير من الرياحيين..فخلي عنك هذه الميول الجامحة..وكوني قنوعا بما قسم لك.. واعلمي أن من خفض جناحه رفع قدره.. وأن من طلب المزيد وقع في النقصان.. فأجابتها البنفسجة قائلة: أنت تعزينني أيتها الوردة.. لأنك حاصلة على ما أتمناه أنا.. وأنت تغمرين حقارتي بالحكم والمواعظ.. لأنك عظيمة.. سمعت الحديقة ما دار بين الوردة و البنفسجة.. فاهتزت مستغربة.. ثم قالت: ماذا جرى لك يا بنتي البنفسجة..؟! لقد عهدتك لطيفة بتواضعك..عذبة بصغرك..أتراك أستهوتك المطامع القبيحة أم سلبت عقلك العظمة الفارغة..؟ أنت لا تدرين ما تطلبين.. ولا تعلمين ما وراء العظمة من البلايا الخفية.. فلو رفعت قامتك.. كما تودين و أبدلت صورتك وردة لندمت حين لا ينفع الندم.. قالت البنفسجة : دعي كياني يتحول الى وردة مديدة القامة.. مرفوعة الرأس وعندها لا آبه لما يحدث.. لأنه من صنع أرادتي.. وسرعان ما تحولت البنفسجة الى وردة زهية.. متعالية فوق الأزهار والرياحين.. ولما جاء عصر ذلك النهار تلبد الفضاء بغيوم سود.. وهاجت سواكن الطبيعة.. فأبرقت وأرعدت.. وأخذت تحارب تلك الحدائق بجيش من الأمطار والرياح.. حتى كسرت الأغصان.. وأقتلعت الأزهار المتشامخة.. ولم تبق إلأا على الرياحين الصغيرة.. التي تلتصق بالأرض، أو تختبىء بين الزهور.. ورفعت إحدى صغيرات البنفسج رأسها.. فرأت ما حل بأزهار الحديقة وأشجارها من دمار.. فأبتسمت فرحة.. وقالت لرفيقاتها: ألا فانظرن ما فعلته العاصفة بالرياحين المتشامخة.. وقالت بنفسجة أخرى: نحن نلتصق بالتراب.. لكننا نسلم من غضب العواصف والانواء وقالت بنفسجة ثالثة: نحن حقيرات الأجسام.. غير أن الزوابع لا تستطيع التغلب علينا.. ونظرت ملكة البنفسج.. فرأت على مقربة منها الوردة التي كانت بالامس بنفسجة.. وقد اقتلعتها العاصفة.. فباتت كقتيل أرداه عدوه.. فقالت لرفيقاتها: تأملن يا عزيزاتي هذه البنفسجة التي غرتها المطامع .. فتحولت إلى وردة لتتشامخ ساعة.. ثم هبطت الى الحضيض.. فليكن مشهدها عبرة لكل معتبر.. عندئذ ارتعشت البنفسجة المحتضرة.. واستجمعت قواها الخائرة .. وقالت بصوت متقطع لا يخلو من لهجة تدل على الطموح والافتخار: لقد عشت حياة الوردة ساعة.. كحياة الملكة.. مكنتني من النظر الى الكون.. وملامسة النور.. فهل بينكن من تستطيع ادعاء هذا الشرف؟ ثم لوت عنقها وبصوت لاهث قالت: ((أنا أموت الآن.. وفي نفسي مالم يكن في نفس بنفسجة من قبل .. أموت وأنا عالمة بما وراء المحيط المحدود الذي ولدت فيه!)) ثم أطبقت أوراقها.. وارتعشت قليلا وماتت وعلى وجهها ابتسامة من حقق أمانيه في الحياة.. ابتسامة النصر والتغلب... ابتسامة الله. * * * جبران خليل جبران
| |||||||||
|