|
|||||||||
> الصفحة الرئيسية - الروح - مقالات أخرى |
|||||||||
فن الحياة والموت
تقول الحكمة:
"اعمل لدنياك كأنك
تعيش أبداً، حينما تفكرت مليا بهذه العبارة، والتفت إلى ظروف حياتنا وأسلوبه عيشها، وجدت من النقص ما وجدت من الحاجة لكي نكسب فن الحياة وفن الموت الموجود في هذه العبارة الجدلية. يرى البعض أنها تحمل معاني جميله تحث على الزهد بالحياة الدنيا والالتفات إلى الآخر، وتحمل معاني -يرفضها البعض- تحث على السعي في الدنيا والاستزاد منها كأن يبقى الانسان مخلد فيها. فهلم بنا نتفكر بها، ونربطها بواقعنا.. التراث الديني مليء بالعبارات التي تحث على الزهد في الدنيا, والالتفات إلى الآخرة، فما الحياة الدنيا إلا متاع إلى حين، ما الحياة الدنيا إلا جسر، والحياة الآخرة هي الباقية، ودوام الاستعداد لها مهم. وهذا ما تشير إليه القسم الثاني من عبارة "..واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". أما العبارة الأولى "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً.." ففيها معنيين، الأول، هو أن تعمل في الدنيا وتستزيد منها من المال والعيال والجاه، كأنك مخلد فيها. والفرد الذي يشعر أنه سيعيش مئات السنين فإنه سيعمل جاهدا على كسب المال اليوم حتى يكون له شأن في الغد، أن يجمع الزاد الكثير لأن رحلة الحياة أمامه طويله. بينما المعنى الثاني لهذه العبارة فهو، أن تستعجل العمل من أجل آخرتك، وتأجل العمل لدنياك لأنك غير مستعجل في الدنيا بينما أنت مستعجل للمغادرة سريعا.. فلو فكر المرء أنه باقي في الدنيا مئات السنين فلن يستعجل على طلب رزقه وما لم يعمله اليوم فسيعمله غدا، بينما موته محتم في أي لحظة، ولا يمكن تاجيل عمل الآخرة للغد كما هو تأجيل عمل الدنيا للغد. وهنا يكون الشق الاول والثاني من العبارة يقدم معنى واحد وهو الزهد في الدنيا والعمل على الآخر. ولكن ماذا لو اعتبرنا هذه العبارة تحوي معنى ديالكتيكي، أو جدلي فيها؟ كما هي عبارة (لا إله، إلا الله) التي تحتوي على نفي (لا إله) واثبات (إلا الله)، وهنا لو وقف المرء يتأمل في هذه العبارة فسيجد ابعاد كثيرة فيها.. نوع من السكر الذي لا يهدئ. كذلك العبارة التي نحن بددها تعطي هذه الأبعاد، لأنها عبارة جدلية لو أخذناها بهذا المعنى، أي أن الشق الأول والثاني منها يحثنا ليس على الزهد في الحياة الدنيا كما ذكرت في الأعلى، إنما يحثنا على الامرين المتناقضين معا، وهو أن يسعى المرء في الدنيا كما لو سيعيش أبدا، فيجمع ما يكفيه من الزاد. وكذلك يعمل من أجل آخرته كأنه سيموت غدا. وهنا تكون الجدلية والمفارقة والديالكتيك.. هنا تكون الابعاد في اقصاها.. فن عيش الحياة، وفن مغادرة الحياة. فتأمل. حينما نلتفت إلى الشرق وطرق عيشهم، كالصين والهند خصوصا، نجد أن الروحانية مرتفع لديهم، زاهدون في الحياة، يعيشون فقر مدقع، لا يملك المرء كسرة خبز في يومه، ولو حصل على كسرة الخبز فإنه سيتناولها ولن يخبئها للغد.. تسيطر عليهم الأفكار الغيبية والروحانية، فتكثر المعتقدات اللاهوتية والديانات المختلفة. يؤمنون بأن لهم حياة أخرى وستكون أفضل من هذه الحياة. وكأنهم يجسدون معنى "..اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". عيونهم تنظر إلى السماء، منتظرين التحرر من هذه الحياة للعيش في النرفانا أو الفردوس الأعلى، مؤمنين بأن هناك كارما ونظام غيبي يسيطر على الحياة الدنيا. بينما نلتفت إلى الحياة الغربية، التي تسيطر عليها الصور المادية، فيكثر فيها العلم والتكنولوجيا والرفاهية، يتمتع المرء بحياة رغيدة مريحة، لا يعاني من الفقر، بل حتى الفقير فيها يتمتع بترف غني، في تلك الدول مؤسسات لمساعدة الفقراء، فتبحث عن وظيفة لهم، توفر لهم مساكن وتقدم لهم الطعام، ولكن البعض منهم يتمتع بحياة الفقر هذه، يذهبون ليتناولوا طعامهم في تلك المؤسسات، ويمضون يومهم في الشحاذة من الناس من أجل أن ينهون وجبة الغداء بكأس من الخمر أو الفودكا! أي للحصول على أمر لا ضرورة له لاستمرار الحياة. يعيش المرء في الدول الغربية الحياة المادية فقط، وقليل جدا ما يلتفت فيها إلى الغيبيات والروحانيات، بعكس الدول الشرقية. وهكذا تجسد الحياة الغربية الشق الاول من العبارة "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً".
لكن ماذا لو جمع هذا بذاك؟ ماذا لو جمعت
الحياة الشرقية مع الحياة الغربية؟ لهذا، نجد أن بوذا تميز بشيء غريب جدا في ديانات الشرق الأقصى، حيث انه لم يتحدث عن إله أو غيب أو قوى روحية، لقد ركز تعاليمه على الانسان، بحيث أراد ان يعيد غرس قدم الانسان الشرقي الروحاني في الأرض من جديد ليلتفت إلى حياته الدنيا، لأن ديانات الشرق الأقصى طافحة بالغيبيات والاساطير حيث أخذ الانسان بالتصوف والابتعاد عن الأخذ بالاسباب والسعي لكسب الرزق. ولهذا لم نفهم بوذا حينما وجدناه انه لم يذكر الله أو السماوات أو أي من هذا القبيل. اعتبرنا انه ملحد أو محرف في الدين، ولم ندرك انه اراد أن يعيد التوازن للإنسان الشرقي الذي أفرط في الروحانيات. هذه الحكمة، تعيد إلينا التوازن وتمنحنا سر فن الحياة وفن الموت.. تعيد توازن علاقة الانسان بالحياة والموت. وذلك على اصعدة كثيرة منها: صعيد المادة/الجسد: كما نعرف فالجسد أمانة، ولا يمكن التفريط به مهما بدت الأسباب والأعذار، وكما حصل الانسان على جسد سليم في رحم امه، عليه قدر الامكان أن يحافظ عليه سليم في لحظة الوفاة. ولكن قد يشرد البعض عن المعنى القويم، ويقول بأننا (سنموت غدا) فلما لا نلهو ونعمل ما نريد بهذا الجسد الذي هو ملك لنا، وطالما أني لن أضر أحد فليس لأحد الحق في محاسبتي. ولكن لو قرر المرء أن يتبع هذه الحكمة:
"اعمل لدنياك كأنك
تعيش أبداً، فإنه سيحافظ على جسده حتى يصلح للعيش لأطول فترة ممكنة، وهذا لن يكون إلا حينما يكون المرء محبا للحياة شغوفا بها، فكما الجسد هدية من الله كذلك الحياة الدنيا هدية ونعمة أيضا. وكلما كان المرء شغوفا بالحياة التي لا زالت تثير اعجابه وتعجبه كلما صار الجسد أكثر صحة وأطول عمرا. ولا تصيب الامراض إلا من بدا مستاء من الحياة، لا تثير اهتمامه بعد اليوم. صعيد المعنى/الفكر: يدخل الطفل الابتدائية حتى يعرف الأعداد والأرقام، ويدخل المتوسطة حتى يتوسع اكثر في المعارف وكذلك الثانوية التي تفتح له أبواب العلوم والمعارف المختلفة حتى تعده لدخول الجامعه. ولن يتخرج من الجامعه الكونية أحد، والكل يتعلم. العلم هو زاد للطريق، مزيد من المعرفة مزيد من سهولة حياة في المستقبل. وهكذا التعلم فطرة الحياة التي يجلب فيها كل يوم شيء جديد، ومن يرفض ذلك يقبل بالموت الأكيد. ومن ليس لديه علم كمن يقطع الصحراء دون ماء أو مال.
"اعمل لدنياك كأنك
تعيش أبداً، من يعيش كمن سيعيش أبدا، فإنه سيعمل على نفسه ويتعلم.. ليس فقط التعلم التي هي عملية لجمع الخبرات الماضوية والمكتشفات. وإنما أيضا لمواكبة المعارف الجديدة وإلا سيعيش في الأمس حتى لو جمع كل المعارف في رأسه. فمعظم المتخصصين اليوم لديهم كم من المعرفة والعلم، ولكن المعرفة هذه والعلوم ماضية، عفى عليها الزمن على الأقل مدة قد تصل إلى سبعة سنين. ومن يريد أن يعيش كمن يعيش أبدا، عليه أن يعيش في عملية "هدم وبناء"، أو ما يشير له الرمز المسيحي "موت وقيامة" اي أن يعيش المرء في كل لحظة يقطع جذور الماضي ليتقدم أكثر للأمام، ليتجدد أكثر، ليكون مليء بالحيوية. فمرة من المرات أخذ يكتئب صاحب مكتبة عظيمة، يكتئب لأن مكتبته التي تحوي على آلاف من الكتب القيمة والنادرة مليئة بالغبار، وصاحبها شاخ على تنظيف مئات الكتب يوميا.. لا يستطيع أن يجلب المزيد من الكتب إلى منزله ولا يستطيع تحريك ساكن في المنزل. لهذا كان يشعر بالاكتئاب والحمل الذي على كتفه. ولكن في يوم من الأيام احترق المتجر بالقرب من منزله، ووصلت النار إلى تلك المكتبه أيضا.. ولكن أمر غريب قد حصل لهذا الرجل، والكل تعجب منه؟ "كيف تفرح بعدما خسرت آلاف الكتب في مكتبتك التي يضرب فيها المثل في المدينة؟" فقال: "فقط في هذه اللحظة التي فقدت فيها كتبي القيمة، شعرت بأني حر طليق مليء بالحيوية خفيف كالريشة". يحتاج المرء من وقت لآخر أن ينفض الغبار عن نفسه حتى يشعر بمزيد من الحيوية، لمزيد من التجديد للانطلاق مرة أخرى من جديد. والحياة تعلمنا ذلك، فالنهر دائما متجدد، وإن توقف النهر عن الجريان، فإن مائه سيتعكر ويفسد! لا يستطيع المرء اليوم أن يعيش بعقلية الماضي، لأنه سينعزل عن الواقع. أذكر مرة أن صديقي أخبرني بأن النساء في منطقتنا كن يرتدين الحجاب في المنزل لكي يشاهدن التلفاز، يعتقدن بأن الرجل مقدم البرامج جالس داخل التلفاز ينظر إليهن، ولهذا اوجب التلفاز ارتداء الحجاب ووجود محرم في الغرفه! هذه الرواية تختلف عن الروايات الاخرى التي لا تزال بعضها متبع في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية، وهي قضية تحريم التلفاز دينيا!! كذلك حرم الكثير من آباء الكنيسة وغيرهم من الفرق الدينية بعض المكتشفات الطبية وعمليات الجراحة، ورفض الكثير منهم محاولات الطب لشفاء الأمراض، حيث كانوا يعتقدون بأن المرض عبارة عن تقدير من الله وقضاء في حياة المريض! هذه هي الحياة حينما يعيشها المرء بعقلية الأمس. صعيد المجتمع/الآخر: كما تأثر هذه الحكمة على ادراك المرء وسلوكه مع جسده وذاته، كذلك تأثر على المجتمع وعلى الآخرين من خلال جودة ما يقوم به من عمل وانتاجية. أتعجب من أناس يبنون منزلهم ليس كما يريدون، لأنهم سيقولون "هذا منزل مؤقت مدة عشرة سنين" ومن ثم سنبني منزلنا الآخر. أو أحد الشاب الذي يقول: "هذا عمل مؤقت لي، سأنتقل إلى شركة ثانية، فلماذا يجب أن أحسن علاقاتي أو أجود بانتاجي؟" فكرة أن هذا الوضع مؤقت سيكون وسيتحسن فيما بعد، فكرة غير ناجحة أبدا، ولو عمل المرء على أن هذا الوضع سيدوم إلى الأبد فإنه سيجود بما يعمل. كما هي الشركات التي تنتج أجهزة عمرها الافتراضي قصير جدا حتى تتعطل مبكرا فيعود المشتري ليشتري مرة أخرى منهم جهاز جديد. فتجد أن العمل المؤقت يصرف من الطاقة والجهد أكثر مما يكلف العمل الذي يدوم طويلا. وهذه هي الفكرة التي ولدت لنا بيئة ملوثة سيئة، معظم انتاجية المسلمون أو العرب رديئة بشكل أو بآخر، لأنهم مؤمنون بأن الإنسان باقي على الأرض مدة مؤقتة وسيغادرها إما بالموت أو بقيام القيامة! ولكن ستجد أن من لا يؤمن بيوم الحساب، من لا يحتوي في قاموسه كلمة "مؤقت" ستجده يخطط وينجز أعمال لن تدوم لعشرة سنوات بل لمئات السنين. فها هي البيئة ملوثة، لم يخطط الانسان كيف سيحافظ عليها من أجل الاجيال القادمة الذين يعتبرون مداد لانسان اليوم (اعمل لدنياك كأنك ستعيش أبدا)، فلو اعتقدنا بأننا سنعيش أبدا، لن تجد أحد يلوث البيئة بأي شكل من الأشكال، ولكن لأننا نعتقد بأننا مفارقون الحياة بعد 30 أو اربعون سنة من اليوم، فلن يضرني تلوث البيئة لأني لن أكون موجود هنا! عجبا لأمر البشر! يقول النبي: (ان الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)4 لن يكون الاتقان حقيقي ما لم تعتقد بأنه سيبقى العمل خالد إلى الأبد.. ولن يكون العمل خالد إلا الأبد إلا عندما يكون متقن الصنع.. تذكر الأهرامات.. تذكر الأعمال العبقرية للبشرية من أعمال فنية وموسيقية ومعمارية واكتشافات علمية وطب وغيرها! تتجسد الحكمة التي توازن علاقة البشر بالحياة وبالموت، بحديث النبي: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) أي على المرء أن يواصل عمارة الأرض بما هو طيب، حتى لو علم أنه مفارق لها غدا. ولكننا نحن اليوم بعيدين كل البعد عن هذا. لأن الكل يريد الشيء لنفسه لا لغيره لا لأبنائه لا للمستقبل.. يريد ان يأخذ النصيب الأكبر من الكعكة ولو مات الأخرون من الجوع.. وأختتم بقول ابن كثير عن هذه العبارة: المفهوم من لفظ هذه العبارة هو حث الناس على عمارتها وبقاء الناس فيها حتى يسكن فيها وينتفع بها من يجيء بعدك، كما انتفعت أنت بعمل من كان قبلك. وسكنت فيما عمره غيرك. وإذا علم أنه يطول عمره أحكم المرء ما يعمله وحرص على ما يكسبه. وفي الجانب الآخر إنه حث على الاخلاص في العمل، وحضور النية والقلب في العبادات والطاعات والاكثار منها، غإن من يعللم انه سيموت غدا يكثر من عبادته ويخلص في طاعته كقول النبي في حديث آخر (صل صلاة المودع).
30/5/2015
____________________ المراجع: 1-نسبت هذه العبارة إلى النبي محمد وكذلك إلى الإمام علي، وكذلك عن عبدالله بن عمر بن العاص.. كما يشير البعض إلى ان العبارة ضعيفة السند. ولكن يمكن التغافل عن قائلها وأخذ الحكمة منها. 2- http://www.aqaed.com/faq/6003/ 3- http://islamqa.info/ar/130847
4- الجامع الصغير للسيوطي ج1 ص177.
| |||||||||
|