|
|||||||||
> الصفحة الرئيسية - الحكمة - مقالات أخرى |
|||||||||
الخيال
إن أغرب ما رأيته في حياتي, عالم يحكمه الخيال, حيث لا يمكن التمييز بين ما هو حقيقي وما هو خيالي, حالة من عدم الثقة والغرابة والمتعة والخوف جميعها في الوقت نفسه, ستشعر أن بعض ما تقرأه هنا خيالي وهذا بالفعل ما هو عليه, لكن ما هو الخيال؟ وما هو تعريفك له؟ قدرة على تجسيد الوقائع أم قدرة على خلقها؟ هناك في الفلسفة الهندية القديمة أسطورة تقول أن الإله تخيّل الوجود وعند ذلك نشأ الوجود بالفعل! ما يجعل الصور التخيلية ذات تأثير على صاحبها هو أن العقل بنفسه قد يعتقد أنها حقيقية ويقوم بالاستجابة المطلوبة لها أحياناً... هكذا نوع من التفاعل نلحظها عند الأفراد الذين يشاهدون السينما, لحظة استجابة معينة لمشهد اصطدام أو انفجار ما, تجدهم يحركون أيديهم أو أجسامهم وكأنهم بالفعل في المشهد, وهذا التفاعل ينشأ لأننا ورغم معرفتنا في الوعي المنطقي بأن المشاهد مزيفة إلا أننا لا نكون في هذا المستوى (المستوى المنطقي), بل في مستوى الإدراك الحسي حيث نندمج في المشهد، ونكون في حالة (إيهام) وندخل في الواقع الخاص للفيلم، ولا يعود العقل قادراً على إدراك زيفها, ويقوم غريزياً بإنشاء ردود فعل لتلك المؤثرات ظناً منه أنها حقيقية. ولأننا خلال سيرنا على الأرض لآلاف السينين طوّرنا عن الإدراك الحسي فكرة, الفكرة هي أنه إدراك موثوق به, فالأشخاص الذين يفقدون الثقه به ويثقون بالإدراك المنطقي تجدهم لا يتفاعلون مع السينما بل ينظرون بتبلّد إلى المشاهد وكأنهم يقيّمونها ويحللونها, لذلك لا يتأثرون إلا نادرا جدا كالتأثر من المشاهد المفاجئة أو المفزعة حيث تحاكي مشاعر أكثر عمقاً في الوعي كالخوف مثلا.. نادراً ما يستطيع البعض السيطرة عليها, فكل الحقائق أو العناصر في المخيلة متأتية في الأصل من العالم الخارجي, كما أن أصل جميع الحيوانات التي تعيش تحت الأرض بالكهوف هي في الأساس من السطح, ولكنها تتطوّر وتتغير أجسامها للتتكيف مع الطبيعة الجديدة, فتفقد القدرة على الإبصار لعدم وجود ضوء وتزيد حدة سمعها, وتطرأ عليها تغيرات بيولوجية أخرى. الأمر مشابه في حالة الخيال "كهوف الوعي" حيث تتسرّب الأفكار والمشاهدات اليومية نحو ذلك المكان وتبدأ بالتغيّر والتشوّه بالتدريج, فهي في الحقيقة تتحول إلى عناصر أو أجزاء صغيرة. ولكن لماذا يفعل العقل ذلك؟ هذا أساسي في فهم مسألة التعّلم ... كيف نتعلم ولماذا تؤثر قوة التخيل على القدرة في التعلّم. العملية التي تقوم بها المخيلة هي "تجميع" الصور والمشاهدات الجزئية التي نستقيها وتحويلها إلى صور أكبر وذات معنى (الصورة مكونة من جزيئات عديدة) لإعادة خلق الواقع, في التعلّم نقوم بأمر معاكس حيث نقوم بتحليل وتفتيت الحقائق والجزيئات العامة إلى جزيئات صغيرة حيث يقوم الطالب في مخيلته بإعادة ربطها وتكوين الحقائق (الصور الكاملة).. وعندها يتم "استيعاب الفكرة". الفكرة في التعليم تدريجية, ونحن نقوم بهذه العملية ليس لأنها طبيعة في الكون بل لأننا وبكل بساطة لا نستطيع استيعاب الحقيقة الكونية دفعة واحدة, بل نعمد إلى تجزيئها إلى حقائق صغيرة جداً بحيث يمكن تجميعها بالتدريج في المخيلة, فالذاكرة هنا مجرّد مستودع والموظّف الذي يعمل هناك هو الخيال, وهذا الموظف يعمل في مركز عملاق كمركز البريد ولكن وحيداً, يومياً تصل آلاف الصور والمشاهدات, وهنا يتضح الرابط بين الخيال والذاكرة وبين التعليم والقدرة على التخيل؛ الأفراد الذي يمتلكون قوة مخيلة (موظف قوي ونشيط) قادرون على تجميع كم أكبر من الجزيئات الصغيرة وبناء حقائق أكثر وأكبر و بذلك هم قادرون على "فهم" ورؤية صورة أوسع وأوسع للكون, وبالتالي فهم يستطيعون "التعلم" بكفاءة أكبر. هذا هو الفرق بيننا وبين الحيوانات الأخرى.. فنحن نشترك معها في استقاء المؤثرات الحسّية من العالم وحتى أن بعض الحيوانات تمتلك حواس أكثر دقة من التي لدينا, لكننا نحن كنّا الأكثر "كفاءة" لأننا استطعنا جمع وتحليل تلك البيانات بشكل أكبر وإعادة ربطها بأجزاء أخرى مرة بعد مرة بخيالنا لبناء تصورات جديدة ومعرفة للمستقبل. على العكس من الحيوانات الأخرى التي تمتلك قدر أضعف من "التفتيت" و"الربط" لتلك المؤثرات, فيجعلها الأمر تبدو "غبية" بعض الشيء. الوعي نشأ أول ما نشأ من هذه المنطقة, ولولا الفيض الذي نستقيه من الخارج لما استطعنا تكوين التصوّر والتخيّل وبالتالي المعرفة, فما لم نختبره أو نختبر أجزاء منه لا يمكننا ابتداع صورة جديدة له, فلن نتمكن من تخيّله أو بناء معرفة له مهما فعلنا ولذلك لا يمكننا تخيّل الجنة أو النار لأن التجربة والحقائق السائدة هناك مختلفة عن تلك التي اختبرناها سابقاً, وليس لأن خيالنا لا يمكنه الوصول إليها فالخيال لا يذهب ولا يعود بل هو أشبه بمصنع يحتاج إلى مواد خام لينتج "بضاعة" ونحن ليس لدينا مواد خام"تجربة أو معرفة" من العالم غير المرئي فكيف نصنع بضاعة "صورة" من هناك؟! ولهذا نجد أن كل الإبداعات والأختراعات، كانت مشتقة فكرتها من الطبيعة، فالمصباح هو نموذج للشمس، والكاميرا نموذج للعين، والهاتف، نموذج للهاتف الباطني... مثال آخر، في الفيزياء النظرية, لدى محاولة تصوّر ما وراء الكون المنظور, عوالم موازية أو أبعاد إضافية, إخفاقات متتالية، وإحباط لأننا ببساطة ليس لدينا ما يمكننا الحصول عليه من هناك, كبيانات أو صور, تجعلنا نبني افتراضات داخلية مشابه لعالمنا, فنفترض أن شيئاً ما يستند على عالمنا ويضغط عليه من الخارج.. شيء ما.. قد يكون أكوان أخرى أو "دبدوب عملاق" لا يوجد شخص واحد على وجه الخليقة قد يخبرك, ولهذا أيضاً فشلت جميع المحاولات لتصّور أو تخيّل الله لأننا لم نستطع ولا نستطيع اختباره بحواسنا أو عقولنا, ولذلك افترض البعض أن الله إذا أراد أن يكلّم عباده فيجب أن يتجلىّ في هذا العالم وأطلقوا عليه "التجسيد", تعالى الله عمّا يصفون, وطرق مثل تلك المعرفة هي من المحاولة لإشباع غليل العقل الذي ترهقه فكرة وجود الله الذي لاشكل ولا حجم ولا وزن له، ولهذا يحاول ان يقرب فكرة الله لأي أمر موجود في العالم المادي، ولهذا اخذوا يشكلون الله حسب ما يسوغ لهم العقل، كأن يكون الله شجاع فيكون رأسه كالأسد، ولان الله قوي فيكون جسمه كالحصان...إلخ. الأمر مشابه لرؤية الملائكة والشياطين فنحن لسنا بسابق تجربة بعالمهم أو أشكالهم الحقيقية, وحتى لو وقف أحدهم أمامك مباشرة! فعند دخول المؤثرات الضوئية الحسية إلى العين ثم وصولها إلى منطقة الخيال, فالخيال والذي لا يتعرف على هذه المؤثرات يترجمها على أنها "فراغ", فليس السبب في عدم رؤية المخلوقات الروحية أن أعيننا قاصرة, فالحمار والديك يمتلكان أعين مشابه (تشريحياً) بل أضعف من أعيانناً في بعض الجوانب, ورغم ذلك فهما قادران على إدراك تلك الأجسام.. السبب يعود إلى أن أرواحهما لها سابق معرفة بهذا العالم الخفي وكائناته بطريقة ما لا يعلمها إلا الله, وكما أن الإبل خلقت من عالم الشياطين فلعل الديك أو الحمار خلق بطريقة مشابه والله أدرى وأعلم, ولذلك فالجن أو الشيطان إذا أراد أن يتجلى بصورة مرئية فهو يظهر بصورة لنا سابق معرفة بها لأنها تنتمي إلى عالمنا كالقط الأسود أو الحيّة أو الكلب أو غيرها ولا يظهر بصورته الحقيقية، التي لا وجود لها في عالمنا الواقعي، فلا يأتي هو أو جزء منه بلون أو شكل لا نعرفه سابقاً ولو حصل ذلك فلن تميّزه عقولنا وبالتالي فلن نراه, ولكن عند الظهور بهيئة مميزة عندها يمكن لعقولنا تفسير المشهد واستيعابه كشيء موجود, هل تستطيع تصوّر لون أو شكل ليس موجود أو أجزاء منه في العالم؟ وهذا أيضاً السبب في أن بعض الصحابة أو الصالحين رأى أنوار في السماء وكانت هي الملائكة, والأنبياء قبلهم كان يرونهم بشكل أوضح, السبب في حالة الأنبياء (عليهم السلام أجمعين) حسب رأيي هو أن الله يودع في قلوبهم من خلال الوحي معرفة بهذه الكائنات يطلق عليها (الكشف). يقول تعالى ((وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)) (21-22) سورة ق
لاحظ في الآية الكريمة
الأولى ذكر
"النفس" والثانية
"كشف الغطاء". وإذا كشف هذا الغطاء حيث يصبح الأخير قادراً على تصوير المؤثرات القادمة من تلك الكائنات وإلقائها في العقل فيدركها ويراها, وفي حالة الصحابة والصالحين فإن الإطلاع على القرآن وقبوله بالقلب يكشف جزء من تلك المعرفة في القلب ولكن بشكل أضعف ويصبح العقل قادراً على التعاطي مع تلك المؤثرات والمشاهدات وتصويرها، وهنا يجب إدراك مسألة.. أعرف أن البعض قد يحاول إثارتها, نحن هنا لا ندّعي أن الأنبياء أو الصالحين خضعوا "للخيال والتوّهم" -نعوذ بالله أن نكون فعلنا- بل نعيد تصوير معنى الحقيقة, فالحقيقة المطلقة لا تظهرها الأعين بل القلوب, ولذلك قال الله تعالى:
(( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)) (11) سورة النجم
ولم يذكر العين رغم أنها أداة الإبصار, فالحقيقة تكتسب مصداقيّتها ووجودها من داخل القلب وليس من طرف الحواس. ومن هناك يتشكل إدراكنا لمعنى الواقع والحقيقة.
ويقول تعالى: ((فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)) (46) سورة الحج
فالأبصار مجرد وسيلة وليست منشأة إدراك بالحقائق والذي يرى بالفعل هو القلب وما يتكون في القلب هو الذي نراه، ويقصد بالقلب هو (العقل والدماغ)، وليس القلب، هي تلك المضغة الموجودة في الصدر.
((خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (7) سورة البقرة
لاحظ هنا الربط بين الختم على الحواس والختم على القلوب، ولاحظ ذكر القلوب قبل الحواس. كمستدلة على الحقيقة الفعلية بدرجة أولى أعلى من الحواس التي هي بدرجة ثانية.
((سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)) 151 سورة آل عمران فيشعر به الكّفار حقيقاً, أو أشد من الحقيقة. ومسألة أخرى, فهذا النوع من المعرفة أو التجربة يلقيه الله في قلوب عباده منه مباشرةً, ونلحظ الأمر أيضاً في باقي الأديان ولو بشكل أقل حسب صحة كتبهم السماوية أو إعتقاداتهم فالاعتقادات الصحيحة عن الله هي التي تيسّر كشف الغطاء, فهذه الكتب أو المعرفة الدينية هي نافذتنا الوحيدة نحو "الخبرة بالطبيعة السماوية", ولذلك فالعلم إذا لم يتعاطى معها فلن يتمكن من إدراك العوالم الأخرى الخارجية. وذلك أيضاً يفسّر لماذا لا يرى الملحد أي ملائكة أو شياطين خلال حياته. ومن كل هذا الكلام السابق في "الميثيولوجيا" لا نريد إلا أن نرى الطبيعة الحقيقية "للخيال" فهو ليس أداة تضليل بل مجرّد "أداة" أودعها الله في أنفسنا تساعدنا في التخيّل فالإدراك فالتعلم، هي جزء أساسي من ميكانيكا الإدراك والتفكير. هكذا يعمل الخيال! اعلق عليه بأن الخيال جزء من اليقين في الرقية مثلا والعلاج بالطاقة، الخيال توليد للذبذبات.
محمد العمصي 19 مايو 2011
ما كتبه أهل بيتنا بخصوص هذا المقال :
| |||||||||
|