الاستيقاظ
الاستيقاظ من الحلم
إن
الاستيقاظ
بالفعل لا يرتبط بمعرفة أمر ما. فالمعرفة غير مفيدة في ذاتها، لأنها لا تغيرنا بل
ما يغيرنا بالفعل هو التجربة.. القدرة على الوصول إلى أعماق أنفسنا. فهناك يمكن
للإنسان أن يتغير, الوصول إلى النقاء أو الفطرة الصحيحة ليس فقط بتدارس النصوص
الدينية وحفظها. وهذا هو الخطأ الذي ارتكبناه!! النظر إلى المعرفة على أنها الجوهر,
بينما المعرفة هي مجرد قناع, مستوى سطحي للغاية من الوعي, لا فائدة تذكر للمعرفة.
أيّن كان مصدرها ما لم نصل إليها أو نوصلها إلى أعماقنا.
إن الأديان بأكملها مبنية على
فطرة داخلية
ونهم بشري نحو المعرفة المطلقة. لذلك تغرق العقول بسرعة في تلك النصوص فاقدة بذلك
المغزى من التجربة الدينية ككل. لا يمكن للنص الديني أن يخبرك شيئاً روحياً.. بل
يمكن أن يطلب منك أن تكون خاشعاً في دعاءك ولكنه غير قادر على منحك ذلك الخشوع..
يمكنه أن يطلب منك محاربة شهواتك، ولكنه لا يخبرك كيف.. ويمكن أن يطلب إليك أن تفعل
كذا ولا تفعل كذا ولكنه لا يخبرك كيف..
الكيفية هي التجربة... هي المهمة... وعندها فالمعرفة لا تساوي شيئاً..
كل ما تقوم به النصوص الدينية هي محاولة تذكرة الإنسان بالفطرة التي بداخله, وكما
أن الإنسان عندما يتذكر أنه يحلم فإنه يستيقظ داخل الحلم. إنه بالمثل يستيقظ في
الحياة عندما يدرك جوهره فطرته الداخلية ويتذكر طبيعته الحقيقية.
إن التنوير أو الاستيقاظ وهو مهمة فردية بكل ما تعنيه الكلمة.
لا يمكن لأحد أن يمنحك إياه, وكما أنه لا يمكن لأحد أن يدعي بأن له الفصل في تعلمك
المشي. فبالمثل لا يمكن لأحد أن يدعي بأنه قادر على منحك الإيمان. لأن كل تلك
الأمور في صلب الفطرة البشرية يجب أن تجدها بنفسك. فلا يمكن لأحد أن يساعدك على فهم
ذاتك أو السيطرة عليها، لهذا تفشل التجمعات في تحقيق أي هدف باطني إذا كان أفرادها
عاجزون عن تحقيق ذاتهم أو أنهم يعانون مشاكل داخلية.
إن الوصول إلى الحقائق ومعنى الحياة والسبيل للتحرر الذاتي هو
طموح قديم جداً. ولكن شخصية مهمة كان لها أثر كبير في هذا المجال, لقد كان سيذهارتا
غوتاما أو ما أطلق عليه لاحقاً "بوذا" أو "المتنور" شخصاً مختلفاً عن غيره من "الباحثين
عن الحقيقة"... اليوم البوذية هي الدين الوحيد الذي لم يدعي مؤسسها الإلوهية أو
النبوة, ورغم أن البوذية هي دين وضعي –أي وضعه الإنسان لنفسه- إلا أن
مذاهبها الأخلاقية تكاد تطابق تلك التي أتت بها الأديان السماوية في وقت لاحق.
كيف استطاع بوذا أن يصل بشريعته الأرضية إلى ذلك المستوى الرفيع؟ وفي حين أن أصحاب
الديانات السماوية
مشغولون في حروبهم الداخلية والخارجية، نرى البوذية منعزلة ومسالمة طوال الـ2500
عام من ظهورها!! كيف يستطيع فرد إيجاد مذهب يحدث كل هذا التأثير في أتباعه بينما
يغرق أصحاب الديانات السماوية في الكراهية والحقد لبعضهم؟؟ الحروب الصليبة، الحروب
المذهبية، نظريات المؤامرة وغيرها.
العالم الذي يدين بالمسيحية والإسلام واليهودية هو عالم مليء
بالحقد والكره والحروب والفساد لبعضهم البعض. و داخل كل دين سماوي فرق أخرى متناحرة
أيضاً.. البروتستانت والأرثودكس... الشيعة والسنة... ومئات الفرق الصغيرة الآخرى
التي لا تحصى... وداخل كل فرقة هناك تيارات وفتاوى ورؤى لا تنتهي.. ورغم أن
الديانات السماوية جاءت من مصدر غير بشري وموحد، إلا أنها لم تتجسد في الأرض بالشكل
المطلوب. لماذا؟ ما هو السبب؟ من هو المسئول؟
لقد ركز أصحاب الديانات السماوية على المعرفة... المعرفة هي كل
شيء... أنا أعرف أنه هناك آخرة أعرف أنه هناك جنة ونار أعرف أن هناك إله للكون. وقد
درست اللاهوت، وقرأت كل الكتب التي تشرح وتفسر وتنظر لديني.. أعرف كيف يجب أن يعبد
هذا الإله... وأعرف... وأعرف. ثم ماذا؟
ما أعرفه هو مجرد قناع... لذلك يعيش أصحاب الديانات السماوية في كل ذلك الشقاء.
بوذا لم يجد معرفة... لقد فصله زمن كبير عن أقرب ديانة أو نبي سماوي... فماذا يفعل؟
لم ينتظر نزول معرفة من السماء أو ظهورها من الأرض بل أدرك أن المعرفة الحقيقة هي
المعرفة المخزنة في ذاتنا. والأديان ما جاءت إلا لمساعدتنا في البحث عن ذلك المخزون
بداخلنا, وكون ذات الإنسان هي كيان قديم للغاية، أدرك بوذا أن الحقيقة هي موجودة
فقط خلف هذا العالم.. وعند سبر أعماق نفسيّته تحت شجرة الحكمة. وصل بوذا إلى
المفاهيم البسيطة الأولية والتي تشترك فيها جميع الأديان والممل.. ما نسيناه نحن هو
أن الدين جاء لتذكرتنا بما في قلوبنا من فطرة. هو لم يأتي بمعرفة ليست موجودة في
قلوبنا، لم يأتي الدين ليخبر البشر بأن هناك إله لم يكونوا يعلمون بقراره أنفسهم
بأنه موجود... كل البشر يؤمنون بوجود كيان ما خلف هذا العالم يدير شؤونه. المشكلة
الأساسية أننا اختزنّا النصوص بمعناها الحرفي. نتدارسها ونأولها، أصبحت مجرد كلمات
جامدة في الكتب، ومعرفة ميتة في العقول، نسميها ترف فكري، وتفقه ديني.. لذا لا تكاد
تلامس ذاتنا ولا حتى عقولنا السطحية, وأصبحت النصوص الدينية هي وثائق لنشر الحروب
والتكفير والكراهية.
المعرفة يمكن أن نختلف حولها.. يمكن أن يرى كل شخص شيء من
المعرفة ولا يراه الآخر. لأن المعرفة ترتبط بالعقل فقط. والعقل هو أداة للفحص
والتمحيص فنحن نتعامل مع الإنسان –العقل فقط- بينما الفطرة أو المعروفة الداخلية
شيء أكثر متانة. التجربة تتعامل مع كل مكونات الإنسان, الروح والحواس المشاعر
والعقل, لذا قد يختلف اثنان في تفسير جملة من النص الديني, لكن من المستحيل أن
يختلف اثنان في جمال زرقة السماء, أو حالة الخشوع. فكما إن البشرية تختلف في
ثقافاتها ودياناتها، ولكن وقت التجربة الجنسية فإن الكل يشعر بالنشوة الروحية ذاتها،
مثلما يشعر الكل بالنشوة الجنسية ذاتها..
التجربة تصدمنا, ترينا الحقيقة التامة التي تجمعنا وتوحدنا, بل الحقيقة يمكنها ان
تخلق إنسان جديد داخل الإنسان القديم.
داخل الحلم
لقد راودني حلم، حلم كان واقعياً جداً إلى درجة أنني بدأت
أتساءل عن المعنى الحقيقي للواقع. لقد رأيت في الحرب أناس يحاولون الهرب في كل
اتجاه!!
الجميع يستوليهم الفزع والخوف, ويمكنني القول أن أغلبهم كان يظن بأنه هالك لا محالة,
ورغم أن المشاعر والمخاوف التي في قلوبهم لن تغير بالفعل مسار القذائف والقنابل
الموجه نحوهم، إلا أنهم واصلوا العيش ضمن تلك الفقاعة العقلية التي تعزلهم عن
الواقع.
عندما تصبح الرغبة في البقاء هي هدف بحد ذاته، فالحياة تفقد معناها لأن مصيرنا في
النهاية هو الموت, لا يهم حقاً ما سنفعله لمنع حدوث هذا الأمر.. في النهاية سنموت
دائماً, الفرق أن البعض يرى الموت نهاية الطريق, والبعض الآخر يعرف أن الموت هو فقط
بوابة لمستوى آخر من الوجود. وفي الحقيقة فهو مستوى لن يخشوا من الموت بعده, فالموت
ليس شيئاً يستحق الخوف والرعب لهذه الدرجة, بل هو شيء يجب أن نستقبله بالورود
والترحاب كونه سيخلصنا من عذابنا الداخلي. لا يعني ذلك أن نبحث عن الموت في كل
الاتجاهات ولكن ما أقصده هو التخلص من مشاعر الخوف اتجاه الموت, لقد مت مرات عديدة
خلال حياتك, مت عندما لم تنجح في مواجهة مخاوفك, مت عندما أخفقت في مجابهة رغباتك.
ومت عندما لم تستطع إنقاذ صديق, مت عندما لم تستطع مصارحة الله, كما أنك مت مرات
عديدة عندما كدت أن تفقد الأمل... لذا لن يعني الموت الكثير بالنسبة لك, والحياة لم
تعد تقاس بالمدة الزمنية التي قد تتمكن بها من البقاء في هذا العالم، بل بالمقدار
الذي قد تبلغه في تقدمك الشخصي.
لن تصل إلى الأعلى إذا كنت تخشى السقوط, وأنت لن تحقق التنوير
والخلاص إذا كنت تخشى الموت, لأن الاستيقاظ والتنوير هو الموت بعينه, هو موت شخصيتك
القديمة وولادة شخصية جديدة منقشعة خلف الفناء والبقاء الإلهي. فقط عندما نتغلب على
مشاعرنا وأنانيتنا ومخاوفنا نحقق الخلاص والولادة الجديدة, لكن كيف نفعل ذلك؟
لقد حاول الكثير فعل الأمر هذا، لقد أرادوا الاستيقاظ... لقد
أرادوا أن يصبحوا صادقين مع أنفسهم, ومن أراد أن يصبح صادقاً مع نفسه, فعليه أن
ينتقل من مجال المعرفة إلى مجال التجربة والتطبيق, علينا الانتقال من التصور
والاعتقاد إلى الممارسة والتدريب. إن الألم والشقاء في هذه الحياة منبعها الأساسي
هي الشهوات والرغبة, وهي إن غلبت المرء أدت إلى هلاكه. المشاعر والمخاوف منبعها
أعماق النفس لذا عليك الوصول إلى هناك إذا أردت مواجهتها, إذا أمكننا السيطرة على
ذلك المستوى من الوعي فنحن لن نتألم بعد ذلك لأننا نصبح قادرين على إطفاء الشهوة
والفكرة حتى قبل أن تتكون. ندخل إلى ما قبل الفكرة وما قبل الإحساس إلى ما قبل وقبل
ذلك إلى السطح الهامد للوعي في أعمق أعماق الذات ما يمكن تسميته
"العدم اللامتناهي". كل إنسان نظرياً قادر على
الوصول إلى ذلك البعد في الذات ولكن سنرى كم هي الأمور التافهة التي تردع الناس عن
بلوغ هذا الهدف وتدفعهم إلى الفشل مراراً وتكراراً.
عندما تكون غارقاُ في الحلم، فأنت لا تعرف ما الذي تفعله، أنت
لا تدري من أنت؟ وماذا تريد؟ بل تهيم على وجهك في ذلك العالم، في الحياة الواقعية
الأمر مشابه؛ فالمعرفة حتى لو كانت صادقة فهي لا تحقق التنوير الحقيقي, يمكنك أن
تحفظ ما تشاء منها وستبقى في مكانك, الإنسان القديم هو ذاته لم يتغير... فقط ملء
عقله بمعرفة ما أو فلسفة ما... وبينما الأنبياء والمرسلين لم يكونوا قط أصحاب علوم
ومعارف بل كانوا في معظمهم لا يجيدون القراءة ولا الكتابة، فإن أتباعهم يعتقدون
بالفعل بأن ملء عقولهم بالمعرفة سيوصلهم إلى طريق الخلاص. لقد كانت حياة الأنبياء
بسيطة ولا تتعلق حقاً بالقدر الذي يعرفونه بل بالقدر الذي يفعلونه...
الارتقاء في الإيمان إن كان مسألة معرفية فقط, فلما لا يرتقي
البشر بها اليوم؟ إن حجم المعرفة الدينية المتوفرة في هذا العصر يفوق بأضعاف ما كان
متوفراُ في العهود القديمة ولكن عقول البشر لازالت غارقة في الظلمات!! نحن في عصر
مشابه لعصر بوذا حيث انقطاع طويل للرسالة السماوية المتمثلة بالرسل والأنبياء
والمعجزات... وكل ما تبقى لنا هو مجموعة من الأخبار والنصوص المكتوبة والممارسات
التي تم التركيز على حفظها... بعيداً كل البعد عن الجوهر الروحي ورائها, وهل أنزل
الله رسالته السماوية لنقيم مسابقة في
"الحفظ والتلقين"؟
نحن لا نسقط الكتابات الدينية في ذاتنا لذا نبقى فاسدين من
الداخل, وحتى عندما نعقل الكتابات الدينية فنحن في الحقيقة نبقيها ضمن المستوى الذي
دخلت إليه ... المستوى السطحي... لهذا يسود الكره والحقد لأن كل شخص يحب أن يمتلك
الطريق الصحيح ليبقى الآخرون مجرد مسوخ يجب التخلص منهم.
هذه هي طبيعة العقل يجب أن تكون هناك نتيجة عقلية واحدة هي الصحيحة ويجب استبعاد
الباقية, نحن من اصطفانا الله والباقون يجب أن يهلكوا بكل بساطة، لذا يبقى الحقد
ولذا تبقى الكراهية وروح الانتقام، حتى بين من ينشدون التنوير والخلاص.
إن الهدف الحقيقي من الحياة هو الخلاص, إن الله لم يخلقك لكي
تحكم على أفعال الآخرين بل لتحكم على أفعالك أنت.
فالخلاص هو مهمة فردية, إن أمكنك أن تنظر إلى نفسك مجردة من كل شيء, من الأفراد
حولك ومن ظلالهم، من المال والثروة والشهرة، من المادة ومن كل شيء آخر يمكنك الوصول
إليه بحواسك أو عقلك, فإنك تنفصل عن هذا الكون, وتشعر بالوحدة حتى وأنت محاط
بمليارات البشر على سطح هذا الكوكب. فأنت تنظر إلى نفسك كما هي وحيدة.. ضعيفة
ومحتاجه... تدرك عجزك الحقيقي وتعرف عندها كم أنت محتاج إلى هذا المصدر اللانهائي
من المعرفة والقوة.
إن الخلاص الذاتي يعني النقاء والمحبة والقدرة على المسامحة,
مسامحة نفسك ومسامحة الآخرين, النقاء البشري مرتبط أيضاً بمواجهة الشهوات, لأن
الفرق الجوهري بين البشر والملائكة هي الشهوة, فالإنسان أيضاً يمتلك تلك الطبيعة
الروحية النقية ولكنها مدفونة تحت كم هائل من الشهوات والغرائز والمشاعر المظلمة.
جميع تلك الرغبات والغرائز مرتبط بالطبيعة المادية, فيمكن أن نتصور الحياة البشرية
كصراع بين النزعة المادية وتلك الروحية, بين الغرائز وبين الرغبة في الخلاص والتحرر,
وكلّما تحررنا أكثر من الغرائز والمادية وارتباطنا بطبيعتنا الروحية فإننا نتحرر
بعيداً عن الألم, لذلك نقرأ عن قوة الإرادة الهائلة لدى المؤمنين الأوائل عندما
كانوا يعذّبون في سبيل تخليهم عن معتقداتهم الذاتية. لم يكونوا يستطيعون تحمل الألم
لأنهم بشر "فوق العادة"!! بل لأن الألم لديهم لم يعد
الألم المرتبط بالطبيعة المادية, الألم الحقيقي كان بالنسبة لهم ابتعادهم وتخليهم
عن طريق خلاصهم. لقد حققوا خلاص ذاتهم من الطبيعة المادية لذا فالألم أو الجوع أو
الموت لم يعد شيئاً مهماً بالفعل. عندما تدفع حواسك وعقلك بعيداً إلى أقصى الحدود
فإن العالم من حولك يتغير لأنه بالفعل يدفع نحو حدوده القصوى أيضاً, عندها تدرك أن
ذلك الكون لا يتحرك بالفعل بل من يتحرك هو أنت, إن التأمل يعني الموت, وإن الموت هو
البوابة التي نعبر بها إلى ما وراء هذا العالم.. إلى ما وراء الزمن وما وراء
الطبيعة... عندها يمكننا الاتصال بالمصدر الحقيقي للمعرفة... الفطرة الداخلية.
محمد العمصي
مقال معاد نشره
طباعة الصفحة
من أجل طباعة
الصفحة، تحتاج إلى قارئ
PDF |
|
|