Facebook Login JavaScript Example

 

 

 
 

> الصفحة الرئيسية - الحكمة - مقالات أخرى

 

 

المعنى

 

معنى من أجل الحياة؟
ما المعنى من الوجود أو الحياة؟ قد يتساءل البعض, وفي الحقيقة لقد تعرضت لهذا السؤال مرات كثيرة, يتساءل العديد دائماً: "هل هي نوع من تجربة إلهية أخلاقية؟", "لماذا يبالي الله حقاً بما نفعله أو ما لا نفعله؟", هنا مسألة مهمة أيضاً ولكن مرتبطة بطبيعة التفكير البشري, لسبب ما.. فالمخيلة البشرية دائماً تفترض وجود نظام إلهي شبيه بالنظام البشري حيث توجد جميع المفردات التي اعتدنا على سماعها في حياتنا اليومية, هذه من الأمور أو الأسئلة التي أعتقد أن جوهرها بحاجة إلى النظر من جديد, في الحقيقة لا يوجد سبب أو معنى موحد للوجود, ولو أخذنا النظرة الدينية لهذا الأمر والتي تقول أن الله خلقنا للعبادة, هنا قد يتساءل شخص ما, "ما حاجة الله لعبادتنا؟, أليست الملائكة تعبده بشكل أفضل من أي إنسان؟ ثم إن الأكثرية من البشر والجن هالكة في نار جهنم لأنهم قرروا بإرادتهم الحرة عدم عبادة الله, فكيف خلقوا لتلك الغاية؟ هل غاية الله لم تتحقق؟" ثم هناك أيضاً مسألة الإرادة الشخصية هل تم بالفعل استشارة أي شخص إن كان بالفعل يرغب بالوجود في هذا العالم أم لا... أم أن السؤال بحد ذاته يعتبر وقحاُ للغاية
؟ لا يبدو الأمر منطقيا ومفهوماً لنا ببساطة لأنه ليس كذلك, ولماذا نطالب الله بأن تكون أفعاله منطقية بالنسبة لنا؟

يقول الله تعالى:

((قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ)) [17 من سورة المائدة]
 

لذا أعتقد اليوم أنه بالفعل لا معنى موحد للوجود ولا هدف حقيقي للحياة من (الناحية المنطقية الصرفة) -كما تتصورها الطبيعة البشرية- فكما قلنا في موضوع السببية, لو كان للوجود سبب وهدف منطقي فإننا بالضرورة نقول أن الله كان مضطراً لإيجاد هذا الوجود من أجل ذلك السبب أو الهدف المنطقي. وبالتأكيد الله لا يخضع للسببية, ولكننا كبشر نخضع لها طوال الوقت, هذا ما يجعلنا نفهم الأمور في ضوء مفهوم "السببية" فنفترض دائماً وجود سبب أو معنى لكل شيء.. وخاصة للحياة. بينما الوجود والحياة من نتائج أعمال الله ومن المفترض ألا تكون تلك الأفعال ناتجة عن دوافع منطقية أو أسباب منتجة لها.
من يدعي خلاف ذلك يفترض وجود بيئة إلهية تخضع للسببية والمنطقية. بينما أعتقد أن الأمر برمته مشيئة إلهية صرفة لا تحتاج إلى أن تكون منطقية أو سببية بالنسبة لنا, وهذا ما ندعوه أحياناً بالحكمة الإلهية (منبع المنطق والمعنى), أما الحكمة البشرية فهي "المنطقية" و"السببية" هذه المشكلة يواجهها علماء الكم الآن حينما يحاولون فصل مفردات التجربة البشرية عن المفاهيم الكمية.

أن أسباب الوجود (غير المنطقية) تتعلق بالفرد أكثر من تعلقها بالوجود ذاته, لأن كل فرد يمتلك أسباب وجوده الخاصة به, لقد عالج الدكتور "فرانكل" تلك المسألة عندما قال أن الأمر أشبه بأن تسأل بطل العالم في الشطرنج عن أي حركة نقل لقطعة من الشطرنج هي الأفضل في العالم, فليس للسؤال جواب محدد لأن الحركة الأفضل تعتمد بالأساس على حركة وتفكير ومستوى الخصم, لذا لا حركة معينة يمكن تصنيفها على أنها الأفضل.. بالمثل ليس هناك معنى موحد للحياة يشترك فيه جميع البشر, فمعنى الحياة بالنسبة لك يختلف عن معنى الحياة لشخص آخر, وقد يمتلك البعض عدة أهداف أو معاني للحياة خلال رحلتهم من الميلاد إلى الوفاة, تلك الأهداف والمعاني هي ببساطة أسباب للبقاء على قيد الحياة.. هي غريزة مهمة تماماً كباقي الغرائز.. كالحاجة إلى الهواء والغذاء والأمن, وعندما نفقدها نفقد معها بهجة الحياة ومعناها.

الإنسان في الحقيقة (كونه خاضع للسببية) بحاجة دائماً لسبب ليبقى على قيد الحياة, هذه الأسباب قد لا تكون منطقية، ولكنها معاني ضرورية للحياة والبقاء, وهي ليست "ماكنزمات دفاعية" أو ردود أفعال -كما يزعم البعض- لأن تلك الأهداف أو المعاني قوية بشكل يدفعنا أحيانناً إلى الموت لأجلها, علماء النفس -الذين يدّعون ذلك- هم ببساطة ينظرون إلى الجانب الغرائزي في الإنسان كقوة وحيدة فاعلة ومؤثر, فالتضحية بالنفس لأجل المحبوب بالنسبة لهم هو رد فعل نتيجة للغريزة الجنسية التي تعمي المنطق, وليس نابعاً من قوة "إرادة" أو "قناعة بمبدأ ما" وهذا ما فشلت مدرسة التحليل النفسي في فهمه. ولقد أضطر "فرويد" لتدارك الأمر في كتابه "ما فوق مبدأ اللذة" ليفسر هذا النوع من الميل نحو "الهلاك" لأجل مبادىء لا تحقق اللذة والتي ظنها فرويد لفترة طويلة القوة الحقيقية المؤثرة في التركيب النفسي البشري, والحقيقة أن مدارس علم النفس الألمانية الثلاثة أكملت الحلقة المطلوبة, فالعلاج بالفكر المتسامي جاء لتدارك أخطاء فرويد الفادحة في وصف الطبيعة البشرية على أساس غريزي, وجميع البشر تقريباً يمتلكون في حياتهم مبدأ أو شخص كانوا على استعداد للتضحية بحياتهم لأجله, فلماذا يبحث البشر عن أسباب لهلاكهم ومعاناتهم؟ ببساطة لأنها تجعل لحياتهم معنى, هنا يبرز معنى الإرادة الشخصية فنحن لا نخضع قصراً للرغبات الجنسية أو القيم والمثل المجتمعية والدينية, فنحن لسنا مجرد فرائس لها, بل هي عوامل لإشباع رغبة فينا "معرفة معنى للوجود". ولكن بالطبع نمتلك في النهاية الحق في اختيار أفعلنا على ضوء تأثيراتها مستخدمين إرادتنا الخاصة, أو ضميرنا السليم. فمن الخطأ الاعتقاد بأن معنى وجودنا مختزن بها (أي الغرائز والقيم), فأسباب الوجود ليست مجرد مسكنات أو منومات فكرية أو تفريغات لكبت داخلي, بل تحمل قيمة أكثر عمقاً من ذلك.

من المخيف حقاً مواجهة البشر بالقول بعدم وجود معنى لوجودهم من الناحية المنطقية، والتي يمكن لعقولهم الوصول إليها وفهمها, وربما بعض الجماعات الإجرامية والإرهابية المستندة على هذه الفكرة (الفراغ الوجودي) أدركت هذه المصيبة, وقامت بالتعبير عنها على شكل من أشكال العنف الدموي (تدمير الحياة البشرية) أو التفريغ الشهواني والغرائزي وغيرها, لجعل الناس الآخرين يدركون مدى "تفاهة" حياتهم وخلوها من أي معاني يمكنهم فهمها, هنا ندرك خطورة مسألة (الفراغ الوجودي) سواء كان روحياً أم غرائزياً... إنه خطر على الحياة البشرية الجماعية كخطورته على الفرد ذاته, الذي من المحتمل أن لا يترجم هذا الفراغ على صورة عنف نحو ذاته بل إلى صورة أكبر من العنف اتجاه المجتمع، لذا علينا أن نساعد الجميع للحصول على أهداف لوجودهم, ولو كانت غير منطقية, الحكومات الفاسدة الرأسمالية أقنعت ملايين البشر بأن هدف وجودهم هو الاستهلاك، أي مجرد هدف غرائزي لا أكثر, الجماعات الأصولية تصور لأعضائها أن هدف الوجود هو مجموعة من القيم والمبادئ التي استخلصتها بتفكيرها الخاص ورؤيتها لمعنى الحياة, وفي الحالتين هناك فقط إشباع لـ"إرادة الوجود" أو إعطاء الناس "معنى لوجودهم" هم في الحقيقة في أمس الحاجة إليه, إلى درجة أنهم مستعدون للهلاك لأجله, قد نسخر من هؤلاء, لكن في الحقيقة الذين لا يمتلكون أسباب للوجود أو حتى يدركون هذا المعنى "عدم وجود معنى للحياة" يعيشون حالة (الفراغ الوجودي) المقيتة ما يدفعهم في النهاية إلى فقد السعادة والركود العقلي والعاطفي. أعرف أن العديد من الأفراد قد يستهجن هذه الفكرة القائلة بعدم وجود "سبب منطقي للوجود"، لكن لو سألتهم عن تصورهم لهذا الهدف فهم سيجيبونك بآلاف الأهداف والأسباب المختلفة, وهم بتلك "الفوضى" أثبتوا ببساطة أنهم لا يمتلكون هدف موحد للوجود, وقد يظن القارئ أن حديثي السابق حول عدم وجود "هدف منطقي" للوجود هو دعوة للفراغ الوجودي أو تبرير للانتحار الذاتي أو الجماعي, لذا أردت أن أبين هذه المسألة, فهدفي الأساسي منها هو إعادة تصوير الأمر من منطلق "ثنائية الإدراك البشري" كما شرحتها سابقاً, فأنا هنا أفترض أن الهدف الحقيقي للوجود لا يمكن الوصول إليه بالعقل بشكل منطقي بحت, من المستحيل حقاً حصر الحياة البشرية ضمن "نظرة مجردة" أو "وصف مسطح" لحقيقة الوجود بشكل مادي بحت, نحن نبحث عن الأهداف.. الطموحات.. الأحلام.. نبحث عن أي شيء يمكننا من خلاله الخلاص الذاتي (إشباع رغبة المعنى), إنه أمر غريب بالفعل, تساؤل البشر حول معنى كل شيء, البحث عن المعنى؟... معنى الوجود.. أو التساؤل في هذا الاتجاه... لماذا ذلك الشيء كان هنا ولم يكن هناك؟ ولماذا على السماء أن تكون زرقاء؟ لماذا على الأرض أن تكون كروية؟ في الحقيقة التساؤل بحد ذاته ليس شيئاً سيئاً, نحن جميعاً بحاجة معرفة المعنى في حياتنا وفي جميع الأشياء الأخرى, إن أول ما يفعله الأفراد عند تحررهم فكرياً من أي اعتقادات أو أفكار سابقة هو البدء في طرح أسئلة صعبة مثل "ما هدف الوجود أو الحياة؟" ثم يغرقون بسرعة في الفراغ الوجودي حيث يفقدون الإحساس بمعنى لوجودهم, جعلني ذلك أتصور أن تحرر الناس فكرياً هو أمر سيء لهم, وليس ذلك لأن الأمر لا يمنحنا حقوقنا الفكرية, بل لأننا ببساطة لا نمتلك الإجابات الكافية, ومن يستطيع الإدعاء بأنه قادر على معرفة كيف يعمل هذا العالم؟ إن السؤال عن معنى للوجود أشبه بسؤال قرد يستخدم في أبحاث خاصة بلقاح الجدري إن كان يرى في معاناته أي معنى؟ وبالتأكيد هو غير قادر على إدراك الأمر, لكن نحن ندرك ذلك, السبب هو قصور إدراك الحيوان, وبالمثل لا يمكننا الإدعاء بأن عقولنا هي نتيجة التطور النهائي للذكاء, وبالتالي فنحن مجبرون على الاعتقاد بوجود كيان عاقل أشد تطوراً يمتلك بالفعل الإجابات الحقيقية والتي تشمل معنى لكل شيء بما في ذلك معنى وجودنا؛ هذا ما يحصل في الأديان حيث أنها لا تمد البشر بالإجابات حقاً بقدر ما تقنعهم بوجود عالم خفي "عالم غيبي" حيث يعطي حياتهم ومعاناتهم معنى ما, إن التحرر الفكري يجعل هذا المعنى يختفي وذلك بالتأكيد يهدد فاعلية حياتنا وإنتاجيتها, وهذه تشكل معضلة حقيقية, وهي الإيمان بأن الكون مليء بالفعل بالمعاني والحقائق التي نجهلها فقط لإعطاء حياتنا معنى ما. لذا فالقيم الروحية والدينية مهمة للغاية, ليست لأنها تعطينا أي إجابات بل ببساطة لأنها تبقى البشر أحياء, إن التوجه المنطقي البشري قد يعطينا تفسيراً منطقياً ولكنه غير قادر على إعطائنا معنى حقيقي, عندما لا نضع القوانين والقواعد فنحن نمنح الآخرين حرية أكبر في الاختيار, لكن في نفس الوقت نحن عاجزون عن حمايتهم من الوقوع ضحية للفراغ الروحي, فالتنوير الحقيقي لا يستند على فكرة الحصول على إجابات أكثر بقدر إدراك معاني أكبر للوجود, هو مسألة إيمانية (إعتقادية) فقط أكثر من كونها منطقية, فالإيمان لا يستند على المنطق وليس مضطراً لذلك في الأساس لأنه جزء من طبيعة الإدراك البشري بحد ذاتها, فعند البحث عن جذور منطقية للأمر لابد أن نصل إلى طرق ليست مسدودة بل لانهائية ولا تحمل معاني محددة يمكن للعقل فهمها كما في حالتنا هذه, كما أن التنوير الحقيقي لا يجب أن يرتكز على فكرة إزالة الأفكار غير المتماسكة منطقياً بقدر إيجاد أفكار جديدة أفضل وأكثر إبداعاً, لأننا إذا لم نفعل ذلك فنحن أشبه بمن يحطم أعمدة منزله مهدداً نفسه بالهلاك فقط لأن لونها ليس جميلاً.
 

يقول الله تعالى:

((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)) [115 من سورة المؤمنون]
 

وكقوله:

((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون))

 

فهو خلقكم لحكمة, لكن ما هي هذه الحكمة؟ فهنا منطلقة إيمانية.
ويقول أيضاً:

((أيحسب الإنسان أن يترك سدى)) [القيامة 36]
 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال). فذكر اليقين والإيمان ولم يذكر التحليل أو التفكير فيها بشكل منطقي أو الذكاء, فالإيمان هنا يجب أن يكون على أساس وجود معنى لكل شيء نابع من حكمة إلهية فالمسألة لا يمكن فهمها بشكل منطقي بل يجب أن يتم افتراضها والتسليم بوجودها فقط لأن بقائنا مرهون بها, الله لا يحجب عنا الحكمة لمنعنا من فهما بل لأننا ببساطة لا يمكننا فهمها إلا بالإيمان فقط, الإيمان بأن هناك حكمة ما موجودة هناك "معقدة" بدرجة كافية يصبح عنها من الخطر على العقل البشري محاولة الوصول إليها, كنهاية إدراكية, وليس ذلك لأن المنطق شيء خاطئ أو ناقص.

يقول الله تعالى:

((وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَـهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُون))
 

مع علم الله التام باستحالة قدرة أحد البشر على الإتيان ببرهان يشكك في وحدانيته, إلا أنه ذكر الأمر لكي لا يتوهم الإنسان بأن التفكير المنطقي هو طريقة خاطئة للوصول إلى الحقائق كما يصوره بعض البشر اليوم, الذين يتساءلون في أنفسهم عن هدف الوجود بمعنى معرفة الحكمة الإلهية أو بشكل أدق "ما كان يدور في عقل الإله" عند إيجاد الخلق, وهو مسألة مستحيلة بكل معنى الكلمة, وسيكون في منتهى الغباء الإدعاء بأن الوصول إليها بشكل منطقي أمر ممكن.

أفترض أحياناً أن بعض الأفعال التي نقوم بها يومياً قد لا يعلم أحد ما الهدف منها أو ما المعنى المقصود بها, ولكننا بالتأكيد نعرف لأننا أصحاب الفعل ومنبعه وقد لا ننجح أحياننا بشرح الأمر للآخرين, وبالتالي فلأن الوجود ومعناه نابع من الله فالأغلب بأن المعرفة الحقيقية بهدف الوجود هي معرفة إلهية, وحتى لو أفصح الله لنا ببعض تلك المعرفة فالأغلب أننا غير قادرين على فهمها تماماً كما يفهمها الله, لذا نرى مدى عمق المسألة هذا يشبه ما يلجأ إليه بعض الآباء عند نصح أبنائه فهو يلجأ إلى الأمر والتوجيه بدلاً من التفسير والشرح لأن الأب بشكل عام يفترض أن الابن مقتنع تماماً بأن ما يقوله له هو الأصح والأنسب, ونحن عندما نتبع الإرشادات والقيم الدينية في حياتنا اليومية فإننا قبل ذلك نؤمن بوجود الله وأنه أعلم في الحقيقة بما هو مناسب وصحيح لنا, وكما يحجب الوالد المعرفة المعقدة عن ابنه شفقة به, يحجب الله المعرفة والحكمة العميقة في الوجود عن عبيده شفقة بهم ولأنه أعلم بما يستطيعون بالفعل الوصول إليه بالتفكير, لذا فليس في الأمر استخفاف بالعقل البشري أو ثغرة فكرية في المبادئ الدينية كما يتصوره البعض.

لقد سمعت خلال حياتي العديد من التفسيرات التي ساقها العديد من البشر لتبرير خلق الله للوجود, واستطيع الإدعاء اليوم بأنها جميعاً تعالج جوانب ظاهرية فقط وتغفل الحقيقة الجوهرية الأساسية, وهي أن "قراءة عقل الإله" هي بالتأكيد أمر مستحيل.
من مثير حقاً أن البشر في هذا العصر بدوا بالإطلاع على بعض الجوانب التي ظلت خفية عن متناول جميع المخلوقات لمليارات السنين السابقة, نحن نتحدث عن أجزاء صغيرة جداً داخل الذرة, حيث للمرة الأولى تأكد أن تلك الجزيئات تسير بعشوائية تامة في ذلك المكان, ولكن في الوقت نفسه هي تتأثر بالمراقب وطريقة نظره إلى الجسيم, نحن هنا نتحدث عن عالم مختلف تماماً عن العالم الذي تصورناه, حيث الأحداث ليست عبارة عن سلسلة منفصلة عن مجرى حياتنا, عندما اعتقدنا بأننا لو أغمضنا أعيننا فإن العالم سيستمر بالعمل كما هو دون تغير.. كنا مجرد حمقى, تصورنا أن المستقبل هو شيء ثابت يمكن توقعه, وفجأة تحول هذا العالم إلى شيء مختلف, حيث إن نظرتنا إلى المستقبل تعمل على تغييره كل لحظة, كشيء ديناميكي, وأصبح كل شيء مترابط بشكل لا يصدق, وأن المادة بتعريفها الحالي هي مجرد وهم بالتأكيد. يمكن لك تصور الأمر ببساطة, فالمادة هي تكاثف للطاقة, ويمكن النظر إلى الطاقة كوحدة أساسية معبرة عن الوجود, إن ما نطلق عليه أحداثاً يومية... أفكار.. وحتى أفعال.. ما هي إلا تغير لخريطة تكاثف الطاقة حولنا, فالكون عبارة عن حقل هائل ومتفاعل للطاقة أشبه بتجمع مائي كبير كالمحيط مثلاً, ويمكن أن تتصور نفسك كموجة تسرح في ذلك المحيط, في لحظة ما فإن احتمال تلاقي موجتك مع موجة أخرى كبيرة هو احتمال وارد, كان ذلك عندما اصطدمت شاحنة مسرعة بك هذا الصباح, إن ما يحصل لاحقاً للوعي أو الموجة الخاصة بك أنها كانت مجرد تعبير عن الطاقة المحركة للسطح, تلك الطاقة لن تفنى بالتأكيد ولكن سوف تتخلى عن الشكل الموجي السابق (الحياة المادية), طاقة هذه الموجة تتفرغ خلف الاصطدام وبعيداً عن السطح نحو أعماق البحر بعد أن قضت كل ذلك الوقت تتجول على سطحه, في هذه الحالة فإن شكل الموجة وطولها هو أمر مختلف تماماً عن تلك التي لا تزال على السطح, وإنه في الحقيقة من المستحيل أن تفهم الموجات السطحية أن شيئًا ما بالفعل موجود في الأسفل, فإن ما تراه حقاً هو التفاعل السطحي بين ما هو موجود "المادة" ممثلةً بالماء مثلاً وبين الفراغ, لذا يغيب حقاً عن بالنا أننا مادياً مجرد تفاعلات سطحية لمجال الطاقة بينما الجوهر الحقيقي كامن في القوة المحركة في الأسفل, القوة المحركة للطاقة, أعتقد انه من الصعب حقاً وفي خضم كل هذه التعقيدات الهائلة أن يأتي شخص ما بفكره محددة عن مفهوم القدر أو السببية, لأن الأفكار البسيطة دائماً عندما تصف ظواهر معقدة تكتسب تلك البساطة من ربطها بالله وقدراته اللانهائية, وعندها فإنها بالفعل قد تبدو بسيطة لنا, ولكنها في الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك, هناك مشكلة جوهرية, تكمن في تصورنا بأن العالم بالفعل يمكن تبسيطه وجعله مفهوماً تماماً لشخص عادي يسير في الشارع مع العلم أن الأمر معقد بدرجة كافية لجعل عالم في الفيزياء النظرية يبدو أحمقاً. أعتقد أنه ليس مهماً بالفعل سرد المعادلات والنظريات, بقدر فهم المعاني الفلسفية التي تخبرنا بها, ثم من خلالها نفهم المعنى الحقيقي للحياة اليومية والوجود ذاته.

الحياة من أجل المعنى؟
هذا ما يفعله الناس طوال حياتهم, إن عملية اكتشاف أهداف الوجود ما هي إلا نقل لتلك الأهداف من الخافية في أعماق بحر الوعي إلى الوعي والشعور السطحي, فالمسألة لا تتعلق حقاً بتجسيم الأهداف الوجودية, كأن نقول أن الشخص كان له هدف لوجوده ثم ذهب ثم عاد, ما يحصل في الحقيقة أنه يدرك هذا الهدف ثم يصبح لسبب ما لا شعورياً ثم يعود شعوريا وهكذا, وهذا ما يصوغ التجربة الشعورية البشرية, عندما نقول أننا عثرنا على سبب وجودنا فهذا لا يعني حقاً أنه لم يكن موجوداً بداخلنا طوال الوقت, عندما يكتشف عالم ما اكتشافاً مهماً فإن ما يدفعه في الحقيقة إلى الحياة ليس الاكتشاف بحد ذاته, بل التجربة الشعورية المرافقة لها أما الباقي فلا يعدو كونه مجرد وصف لشيء لا أكثر, فما يحصل في الحقيقة أننا نقوم بإسقاط تفاعل داخلي على طبيعة العالم الخارجي لاكتشاف أهداف وجودنا, فقد يكون الشخص محباً للتحديات والنصر, فعند إسقاط ذلك المكون الداخلي على شكل انتصار في رياضة أو علم أو فن فإن حياته بأكملها بل وتاريخ انتصاراته ما هو إلا ترجمه لها, وأصحاب الانتصارات المهمة, سواء أكانوا علماء أم جنرالات أم لاعبي بيسبول فهم فقط أسقطوا مكوناتهم الداخلية على هذا العالم على شكل تلك الانتصارات والنجاحات, ولذا فقد وجدوا معنى لحياتهم, وكانت حياتهم حافلة جداً إلى درجة جعلتهم يعملون بأعلى فاعلية ممكنة, وهنا ينشأ الأشخاص المتفوقون, فهم ليسو متفوقين لأن شيئاً ما لديهم ليس موجوداً في الآخرين بل لأنهم ببساطة نجحوا في ترجمة تلك المركبات الداخلية إلى مظاهر خارجية, لذلك فمن العدالة التصور بأن الجميع يمتلكون "معنى لوجودهم" وأولئك الذين لا يمتلكونه, هم ببساطة لم يستطيعوا الوصول إليه بعد.

معنى الوجود يرتبط بقلب الإنسان, هل يمكن أن يوجد إنسان بلا قلب؟ ورغم أن القلب هو كيان غير مادي فإن له أشد الأثر على الطبيعة المادية, فنستطيع أن نرى كيف يولّد الحقد كل ذلك الدمار على كوكبنا, كما نرى كيف يصنع الحب والعلم الرخاء والأمن والسعادة, فمعنى الوجود مختزن بصورة غير مادية مخالفة لتلك الخاصة بالصراعات الغرائزية, والإنسان ككيان ليس مجرد مدير لتلك الصراعات بقدر ما هو كائن ينصب اهتمامه على تحقيق معنى لوجوده.
إن فهم حقيقة العالم هي مسألة معقدة, ومن الصعب حقاً فهم تفاعل الذات مع العالم الخارجي وأيهما المؤثر على الآخر, هل الذات تصنع العالم الخارجي أم العالم الخارجي يصنع الذات؟ ويبدو أن كلاهما يمتلك قدرة كبيرة على التأثير على الآخر, ففي حين تمتلك الطبيعة الخارجية القدرة على استدعاء مشاعر معينة تصنع سمات مهمة للذات, فالذات أيضاً تمتلك قوة كبيرة على التأثير في سير الأحداث الخارجية.

إن فؤاد إدراك معنى الوجود عظيمة بالفعل, هي لا تمنحنا فقط الدافعية والرغبة في الإنجاز فحسب, بل تحمينا أيضاً من الانهيار وتساعدنا على البقاء. أولئك الذين سقطوا في هوة "الفراغ الوجودي" بحيث أصبحوا لا يدركون معنى لوجودهم هم حالة شائعة في هذا العصر, السبب الرئيسي هو البعد عن التقاليد, وربما وضعت العادات والتقاليد لهذا الغرض "إعطاء معنى للوجود", عن طريق تضييق الخيارات ومساعدة البشر في الاختيار, وقد تبدو تلك التقاليد سخيفة أحيانا ومقيدة لحرية الفكر, ولكن ماذا يحصل عندما تتسع الخيارات ولا يجد الشخص حقاً دعماً تؤمنه العادات والتقاليد في تحديد اختياراته فهو في الحقيقة يصبح عاجزاً عن تحديد ما يريده وما يحبه, كما أن هذا التقدم الهائل في التكنولوجيا خلق وقت فراغ هائل جعل العديد من الأفراد لا يعرفون بالفعل كيف يستغلّون كل ذلك الوقت, يترجم الأمر بالملل أو الضجر أحيانناً, والأخطر عندما تكون الترجمة بالفعل عندما يظهر على شكل نوع من العنف اتجاه المجتمع لحرمان الآخرين الذين يجدون معنى للوجود من الاستمتاع بحياتهم.
 

تحقيق معنى الوجود
إن السقوط في دائرة الفراغ الوجودي ليست النهاية بالتأكيد, ربما هي مفيدة بالفعل إن أحسنا استخدامها كنوع من التحول أو التغير في الحياة, يترجم الأمر عادة بشعور غير مفهوم للملل والضجر ناهيك عن غياب السعادة, يحصل ذلك عندما نفقد المعاني في حياتنا, الموت والمعاناة هي عادة ما ينزع المعنى من الحياة, هناك عوامل أخرى أقل تأثيراً كنمط الحياة أو طريقة التفكير, ضرر الفراغ الوجودي هائل بالفعل, إنه مضيعة كبيرة للوقت ناهيك عن الخسائر الناتجة عن غياب الدافعية في الإنتاج, في المجتمعات الصناعية تحول تفريغ الفراغ الوجودي إلى تجارة مربحة, الشخص الذي يصاب بالفراغ الوجودي عادة ما يلجأ إلى تبذير المال أو الجنس أو المغامرة في سبيل مليء هذا الفراغ, الشركات الكبرى تعلم أن هذا بالتأكيد مفيد لزيادة أرباحها, لذلك نرى أن الانتباه في تلك المجتمعات منصب على علاج الفراغ الوجودي بعد الإصابة به بدلا من معالجة أسبابه, وهذا منهج التحليل النفسي الحالي, أي وضع المشكلة الأساسية تحت كم هائل من المسكنات وتجاهل الجوهر. كما أن إنفاق الناس أموالهم عند شعورهم بالملل هو أمر جيد للاقتصاد الرأسمالي, لذا لا يبدو قادة تلك المجتمعات مهتمين فعلياً بعلاج مجتمعاتهم روحياً, لذا تبقى تلك المسؤولية "الخروج من الفراغ الوجودي" مسألة فردية, وعلى الأفراد معالجة أنفسهم بأنفسهم, وإذا كان الأفراد في المجتمعات المتقدمة يمتلكون ما يكفي من الموارد المالية لتبذيرها عند الشعور بالملل والفراغ الروحي, فالأفراد في المجتمعات النامية لا يمتلكون تلك الرفاهية بل الإنفاق غير المدروس سيخلق لهم المزيد من المعاناة والتي تنتزع المزيد من المعنى من حياتهم بالتالي المزيد من الإنفاق والدائرة قد لا تنتهي إلا بالانتحار, لذا بدلاً من غمر الأمر بالمسكنات علينا معالجة الأصول الأساسية للفراغ ذاته. أعتقد أن البرمجة العصبية والتنويم المغناطيسي الذاتي تنجح عادة في إزالة العوارض الناتجة عن المرض ذاته، ولكنها وبشكل سخيف تبقيه موجوداً لأنها غير قادرة على إزالته نهائية, فلو أن الشخص فقد عزيزاً ولم يستطع أن يجد معنى لهذه المعاناة فإن كل ما يقوم به العلاج النفسي والتنويم المغناطيسي هو محاولة جعله ينسى قصرياً تلك المعاناة والتي ستعاود الظهور عند تذكرها مجدداً, لكن لو بالفعل عثر على المعنى من تلك المعاناة فإنه ليس بحاجة إلى العلاج, فالمعيار المهم هنا ليس الاتزان الداخلي بقدر التطور والنضج في الحياة.

 

***

 

المعنى النهائي
علينا في البداية الإيمان بوجود المعنى النهائي لكل شيء, كافتراض ضروري لوجودنا, علينا الإيمان بأن كل شيء في هذا الوجود له معنى ما وإن لم ندركه, وهذه فكرة مضادة لمفهوم العدمية الوجودية والتي تستند على الاعتقاد بأن هذا الوجود لا يمتلك فكرة حقيقية أو معنى لوجوده.
كبداية عليك أن تدرك الأمر اعتقادياً, كمسلمة أو افتراض مسبق, إن سبب افتراضه مهم للغاية, إنه ضروري للحياة, تخيل أن طفلاً امتنع عن استنشاق الهواء حتى يفهم ما جوهر ومعنى هذا الهواء, فإنه بالفعل سوف يهلك قبل أن يدرك الحقيقة, السبب في الافتراض ليس ضعف المعرفة أو عدمها بقدر ما هو حاجة للبقاء والتطور إلى أن يتم فهمها (أي الحقائق) بشكل واضح. حالياً نحن لا نمتلك الوسائل المناسبة للبحث في المضمون الخاص بمعنى الوجود كمعنى مجرد لكن نحن كأفراد بحاجة إلى ذلك المعنى, الطاعة والعبادة, كل المخلوقات لا يمكنها العيش دون أن تخضع أو تطيع شيء ما, ومعنى ذلك أن المخلوقات ناقصة في جوهرها أي أنها غير قادرة على البقاء بمفردها دون عون خارجي لإعطائها معنى لوجودها ودعم هذا المعنى, وهي تعبر عن هذا الضعف أو النقص عن طريق الطاعة والعبادة, لذلك يبحث الناس دائماً عن شخص أو قوة لتترأسهم, فالأفراد العاديون يتجمعون نحو القادة والحكماء ليتمكنوا من التخلص من هذا الضغط الداخلي, دائماً نبحث عن مرشد أو ملهم أو قيم ومعاني لتقودنا خلال هذه الحياة وتمنحنا تلك القوة الكافية لتحقيق أهدافنا, شخص ما أو شيء يجب أن يكون أفضل منهم دائماً, المخلوقات كلها تبحث عما هو أقوى منها لتؤمن به, وهكذا ولدت كل الحقائق في هذا الكون, القوة تسود فوق الأخرى, كدوامة عميقة لها مركز واحد تستمد منه كل قوتها وتدور حوله. القلب هو جوهر الإنسان, وجوهر الإنسان هو الضعف والموت, السبب في ذلك أن البشر ليسوا آلهة, بل هم محدودون وضعفاء للغاية, هل الاعتراف بالنقص والتوجه بطلب العون مما هو أقوى شيء محبط؟ لدرجة تدفع المخلوق للسؤال عن سبب وجوده وضعفه؟ لو امتنع مخلوق ما عن العبادة والطاعة فهو في الحقيقية يدعي إنه مساوي لخالقه في المقدار وليس بحاجة إلى اللجوء إليه أو طلب العون منه, ولو كانت الملائكة قد بدأت تأملاً أبدياً في عظمة الله اللانهائية, فإن البشر قد بدؤوا شقائاً لانهائياً لإدراك مفهوم الوجود المنتهي وبطريقة يائسة.

إن علينا بدلاً من محاولة بحث قضية الإيمان بشكل منطقي أن نحاول فهم المعنى الحقيقي من الإيمان بحد ذاته, فالإيمان وسيلة لتحقيق الأهداف, إذن يمكن أن يكون الأمر أكثر وضوحاً الآن, الإيمان هو سبب للبقاء, إذا كان علينا في البداية أن نؤمن بوجود المعنى النهائي (كضرورة عقلية), فإن علينا في المرحلة التالية أن نحدد ما نؤمن به حقاً, ولسنا في هذه الحالة مضطرين إلى تفسيره تفسيراً منطقياً بل علينا النظر إليه كمصدر للقوة نتداعى إليه خلال هذه الحياة, وسيلة لبلوغ الأهداف, إن المبادئ الدينية هي في الحقيقة ما يشكل هذا الجزء من التطور الذاتي وهي ما يعطينا المعنى الحقيقي الذي نستخدمه خلال حياتنا, كما أنها تسلحنا بالهدف النهائي والأهداف المرحلية كخطوة ثانية. لا بأس -بالتأكيد- أن نمتلك أهدافنا المرحلية الخاصة بنا, والتي تتماشى مع ما تقرره العقيدة التي نؤمن بها, أعتقد أن هذا هو المعنى الحقيقي للدين, حيث يكمن في الإرشاد ومنح البشر ما يمكنهم الاستناد عليه كنقطة مركزية, عندها يمكن أن يسيروا في هذه الحياة مطمئنين, لأنهم أصبحوا ببساطة يعرفون لماذا يسيرون على الأرض يومياً ولماذا هم موجودون, وما هي رسالتهم في الحياة, إن العودة في الماضي أمر مهم, لأنه يساعدنا في البحث عن الأشياء التي نعتبرها مهمة لنا, وعندما نعثر على تلك الأشياء المهمة فإنها تعطينا القوة اللازمة للحياة في الحاضر. علينا وبشكل جدي البحث عن الأشياء الغالية على قلوبنا, يمكن أن تكون مبادئ وقيم أو أشخاص عزيزين أو غايات وطموحات, طالما أننا مستعدون للموت لأجلها تحقيقها, فهي أهداف حقيقية, هل تبدو تلك العبارة السابقة واضحة؟

أن نكون مستعدين للموت لأجل شيء ما, يعني أننا في الحقيقة نرى الحياة دون تحقيقه أشبه بالموت, بينما نرى أن تحقيقه هو الحياة ذاتها, من السهل في الحقيقة التحدث عن المبادئ والأهداف بالكلمات لكن في الحقيقة من المستحيل أن تخدع قلبك, إن لم تكن تشعر بالهدف الذي وضعته فهو غير موجود في الحقيقة, وإن لم يدفعك للعمل والتطور ويعطيك المعنى لحياتك ومعاناتك فأنت في الحقيقة لست بحاجة إليه, لذا فعلى الهدف أن يكون شيئاً تستميت بالفعل للدفاع عنه, وتتخيل أنه لا يمكنك بالفعل الحياة دونه.

في الحقيقة هناك حيلة صغيرة ولكن فعّالة لمساعدة أولئك الذين يجدون صعوبة كبيرة في الحصول على أهداف للوجود, وهي تتمثل بتمثيل الخروج من الوجود ذاته, أي تمثيلية للموت, في اللحظة التي تشعر فيها بأنك غير قادر على إيجاد هدف حقيقي لوجودك يمكنك إدعاء الموت, يمكنك الجلوس على أريكة أو سرير والشعور بالاحتضار وكأنك بالفعل ستخرج من هذا العالم خلال الدقائق العشر القادمة, يمكنك خلال هذه الدقائق والتي من المهم أن تصدّق أنها حقيقية بالفعل أن تستدعي بعض المشاهد أو الشخصيات من حياتك, وكأنها جاءت لتوديعك, ويمكنك أن تتخيل أن الأشخاص الأعزاء على قلبك يبكون أمام قبرك وهم يودعونك, يقولون إنه عند الاقتراب من الموت يرى الشخص صوراً متسلسلة لحياته من الميلاد إلى الوفاة على شكل لحظات خاطفة, يمكنك استعراض صور كهذه طالما أنها تساعد على تجسيد واقعية الأمر, في الحقيقة يمكنك استعراض أي ميتة تريدها, لقد لاحظت أن هذا الأمر لا يؤثر كثيراً على فاعلية التجربة, بالطبع إذا كنت تعيش الآمر بكل جوارحك, لقد كانت هذه الحيلة قوية بالفعل لدرجة أنني حتى الآن لم أرى شخصاً قام بها دون أن يبكي أو أن يذرف الدموع وأن يصل إلى حالة غريبة من الضيق أو انفطار القلب, وعندها من الصعب القول بالفعل أن هؤلاء لم يكونوا قبل بضع دقائق يرون أي معنى لوجودهم, البكاء ليس دليلاً للضعف أو خطأ يجب الندم عليه, إنه يعني ببساطة أننا بشر نمتلك مشاعر وأحاسيس, وليس من الخطأ إظهارها إن كان ذلك كفيلاً بإيقاظ أهداف وجودنا. عندها ندرك أن أهداف وجودنا كانت موجودة بالفعل طوال هذا الوقت ولكننا فقط كنا ننظر إليها كلوحات معلقة على الحائط يسأم المرء من النظر إليها حتى لو كانت جميلة، وبدلاً من ذلك علينا أن نجعلها تجارب حية وواقعية نعيشها بكامل جوارحنا وأحاسيسنا عندها تصبح وقود لإشعال حماسنا وقدرتنا على الإنجاز, وفي بلادنا يتفاخر البعض أن أعلى معدلات الانتحار هي متركزة في بلدان مثل السويد والنرويج رغم ثرائها المادي الكبير, ولكننا ننسى أن معظم حالات الانتحار في بلداننا تتم لأسباب مادية كفقدان الوظيفة أو الثروة, وإذا كان السويدييون ينتحرون بسبب الفقدان الروحي والوجداني فنحن ننتحر بسبب الفقدان المادي !!
 

الالتزام بالمسؤولية
النظر إلى الإنسان كشخص مسؤول أمام ضميره وأمام المجتمع, هي من أولى القيم التي يجب أن يكتشفها الفرد, وهو أمر "أي المسؤولية" نابع تماماً من الداخل ولا يمكن لأي إملاء خارجي أن يفرضه على أي شخص.
عندما تحدد الهدف الحقيقي لوجودك فإن ما يجب عليك فعله فوراً هو التحلي بالمسؤولية اتجاه ذلك الهدف واتجاه نفسك واتجاه الآخرين. في الحقيقة هذه ليست رفاهية فكرية, بل هذا ما يميز الشخص الناضج حقاً عن الأطفال. إن من الأمور السيئة ما تجده في عقول الآخرين عندما ينظرون إلى التنوير كـ"تخلي عن المسؤولية العقلية" اتجاه الأفكار والرؤى السابقة، والتحرر نحو اللامسؤولية واللاتحديدية.. المتنور الحقيقي دائماً سيلفت النظر والاهتمام اتجاهه واتجاه أفكاره الجديدة, فهو يصنع نظرة جديدة للحياة يتبعها الآخرون, لذا عليه أن يتحلى بالمسؤولية اتجاه تبنيه لأفكاره واتجاه رغبته في التعبير عنها على شكل تغيير حقيقي ومؤثر, وتحمّل المسؤولية ليس بالأمر الهيّن, خاصة المسؤولية اتجاه الله,  نذكر أن السماوات والأرض رفضت تلك المسؤولية. هؤلاء الذين يحبون العيش على أقل قدر ممكن من المسؤوليات هم أشخاص محاصرون من قبل الفراغ الوجودي, وهم فارغون من الداخل أيضاً, كما أعتقد أن الحديث عن المسؤولية هو حديث عن مفهوم جوهر الإنسان بحد ذاته, والتساؤل عن معنى الوجود نابع من شعور البشر بمسؤولية ما اتجاه الوجود حتى يتساءلوا عن معنى له, بينما الحيوانات الأخرى لا تبالي حقاً بذلك, فالمسؤولية والشعور بها جوهر إنساني.
 

ماذا يعني أننا مسئولون حقاً؟
لا أعتقد أن العقل يمكن أن يستيقظ تمام اليقظة دون تحمل المسؤولية اتجاه ما يحمله من معرفة ورؤية, أن تعقد العزم على أن تستيقظ وتحيا.. أن توسع أفقك وتبحث... تتأمل وتتعلم المزيد عن العالم فهذا كله لا يعبر سوى عن شعور صادق بالمسؤولية اتجاه جوهر الذات والكون. دائماً ما تتحدث مذاهب علم النفس عن احتياجات الإنسان وإشباعها ولكن نادراً ما تتحدث حقاً عن واجباته والتزاماته اتجاه الآخرين واتجاه كل شيء آخر. في الحقيقة هذه ليست مسألة نطالب بها علم النفس بقدر ما نطالب بها الفلسفة أو الدين, ولست هنا واعظاً دينياً, لكن لا أعتقد حقاً أن محاولة إبعاد البشر عن القيم الدينية التي تحمل معاني الإخاء والمحبة الإنسانية وتحمل المسؤولية هي فعل سديد حقاً. كما أن قيم الديمقراطية والعلمانية أسهمت في منح حريات كثيرة للشعوب ولكنها خلقت بالمقابل فراغاً وجودياً مقيتاً.. السير في الشوارع هكذا وكأننا مجموعة من الآلات حيث لا يشعر الفرد بالفعل أنه يحيا ضمن مجموعة ينتمي إليها وتهتم بالفعل لأمره, والناس بالفعل أصبحوا لا يعرفون ماذا يريدون, النفس اللوامة أو الضمير المسؤول أو حتى الشعور بأن شيء ما خاطئ أو لا يسير كما يرام هي أشياء مهمة لا يمكن للبشر أن يحيوا بتجاهلها.

تحمل المسؤولية يتناسب مع القوة والمعرفة التي تمتلكها, المسؤولية اتجاه النفس والخلاص الذاتي والتطور خلال الزمن هي البداية, فنحن لا نعيش إلى الأبد, ما الفائدة من أن نحيا إذا كنا نظن أنفسنا أجسام كربونية متهالكة مع الزمن لا تحمل أي مسؤولية أو معنى, تحمل المسؤولية اتجاه النفس بأن ندرك الحقائق البسيطة والواضحة تماماً والتي تقف أمام أعيننا مباشرةً, وهي أننا كبشر مخلوقات محدودة تماماً زمنياً, وإن حياتنا خلال هذه الفترة الزمنية البسيطة ما هي إلا تعبير عما نريد أن نوصله من رسالة كمن يطلب أن يعرّف عن نفسه بكلمة واحدة, فمن المفترض أن تكون تلك الصورة أفضل ما تكون عليه, كما علينا أن نتحلى بالشجاعة, بأن نعيد النظر إلى أنفسنا وأن نعقد العزم أن نحيا بأفضل شكل ممكن, وأن ننظر إلى حياتنا هذه وكأننا نحياها للمرة الثانية, وأننا نفسد الأمور الآن كما أفسدناها في المرة السابقة, لذا علينا بذل جهد أكبر لكي نحيا أفضل مما كنا سنحيا في كل مرة, إنها الشجاعة ثم الإرادة، بالفعل يمكنها أن تصنع المستحيل بشكل نظري, لكن لابد لكل إنجاز عظيم من بداية.. ومن يقرر متى تبدأ تلك البداية ؟؟ هو حتماً أنت, يمكن أن تأتي تلك اللحظة الآن, ويمكن أن تأتي غداً أو بعد أسبوع أو بعد شهر, كما يمكن أن تبقى خائفاً لا تشهدها خلال حياتك, ويا لها من حياة بائسة تلك التي تحياها دون إرادة, لا بأس من إستخدام أساليب التنويم المغناطيسي لدعم عملية التغيير لكن لازلت أصر بشدة أن منبع التغير وبدايته كامنة في اتخاذ القرار الحاسم, بتحمل المسؤولية عن الذات, وبالرغبة بالحياة بشكل أفضل وترك بصمة معبرة عمن نكون بالفعل, وتلك هي البداية الحقيقية, أما المسؤولية ىتجاه الله فتكون بتحمل الأمانة التي أودعها في أنفسنا, أمانة الاستخلاف في الأرض والعبادة وبإدراك المعنى الحقيقي للاثنين, عندما ننظر إلى أنفسنا كخلفاء لله على هذه المعمورة فنحن بذلك نحاول فهم الطبيعة الحقيقية للكون وحقيقة الاتساع للمملكة الطبيعة, كم تصبح الأمور واضحة عندما نتناول الأمور ببساطة ضمن مسلمات واضحة, وكم تصبح الصورة قاتمة ويائسة عندما نتناول الأمور من منظور فكري ضيق. فهم علاقة الله بالإنسانية وفهم علاقة البشر ببعضهم وفهم حقيقة الأديان والتسامح بين الأمم هي حسب رأي المفتاح الحقيقي لحل أزمات هذا الكوكب.
 

التحدي والاختبار
إن الطبيعة الباعثة على التحدي والدافعية في الحياة مرتبطة بشكل كبير بنظرة الإنسان إلى ذاته, وهذا يعني باختصار أن ما نقوم به في حياتنا اليومية لا يعد سوى تعبير عن الذات. إن غياب التحدي والتطور والألم في الحياة ليس شيئاً جيدًا لذواتنا وتطورها. فنحن نحتاج أن نتألم وأن نفهم ذلك الألم و نحتاج إلى التحديات والصعاب حتى نجد المعنى في حياتنا مستمراً, والراحة لا تكون إلا باستمرار العمل والتحدي بشكل أو بآخر, لهذا يضع الناس أنفسهم في تحديات مستمرة على الدوام, لأن ذلك فعلاً ما ينشأ الاتزان الداخلي وهو الوضع الحقيقي الذي يجب أن نكون عليه وليس أن نختبئ مرتاحين في مكان ما وننتظر أن يحسدنا الآخرون, وقد ننظر إلى الأفراد الذين يعملون بجهد كبير وتحدي مستمر كأشخاص غير محظوظين ولا يمتلكون وقتاً كافياً لتمتع بالحياة بينما نحن في الحقيقة لا نجد بالفعل ما يمكن القيام به خلال كل ذلك الوقت الطويل الذي نقضيه في الإجازة الصيفية أو حتى في إجازة نهاية الأسبوع, ماذا يعنيه تحقيق الذات حقاً؟ الجلوس والسكون والتأمل الطويل؟

إن جزء كبير من تحقيق الذات إن لم يكن كله يقع في الأساس في العالم الخارجي لأن أفعالنا الخارجية هي التي تقرر بالفعل تصورنا لجوهرنا الداخلي, فلماذا لا يكون المظهر كالجوهر, وما الفائدة أن تكون شخصاُ محباً للعمل والنشاط من الداخل وكسولاً من الخارج؟ لذا فالتفاعل مع العالم الخارجي الحقيقي ضروري لتطوير الجوهر الداخلي وإلا فإننا سوف نبقى حبيسي عالم افتراضي لا نعلم بالفعل مدى حقيقته. لذا إبقاء أنفسنا مشغولين بالتحديات والتطور الذاتي هو أمر شديد الأهمية لإبقاء الفراغ الوجودي بعيداً قدر الإمكان ولمساعدتنا على فهم العالم. لا يعني ذلك إنهاك أنفسنا والإصابة بالقلق والتوتر المزمن والأرق, بل تطوير قدراتنا الذاتية والنضج المثمر مع الزمن, وتحقيق معنى مستمر في الحياة. نحن نتقدم خلال الزمن.. ويكون ذلك التقدم سواء بعمل أو علم, وإذا لم نعمل شيئاً أو نتعلم شيئاً خلال اليوم فكيف نكون قد تقدمنا؟ إن التحدي والإختبار أساسي لبناء دافعية وهدف للحياة, وحالة التوتر والقلق التي نشعر بها قبل الامتحان والتحدي ضرورية تماماُ لأنها تعبر عن مسؤولية اتجاه تطوير حالتنا الحالية إلى حالة أخرى أكثر تطوراً. إن التخلص من التوتر باللامبالاة ليس شيئاً صحياً, لقد بالغنا حقاً بالرغبة في قتل التوتر والقلق, مع إن غيابهما من حياتنا يجعلنا غافلين وكسالى, ونكون أقرب إلى الموت منا إلى الحياة.
 

الحـــــــــــــــب
أعتقد (بشكل شخصي) أن معنى وجودنا متصل عادة في الأشياء التي نحبها, دائما وبشكل تقليدي نتصور أن معنى وجودنا يمكن في مكان ما بين النجوم أو في أعماق الفضاء الذري. وخلال العصر الحديث أثبتت تلك النظرية فشلها لأن كل ما نكتسبه هنالك لا يخبرنا حقاً من نحن بقدر ما يخبرنا عن ماهية تلك الكيانات.

إن الحقيقة أبسط من ذلك بكثير, عندما تجد شخصاً تتعرض إرادة "معنى الحياة" لديه لانتكاسة ليس حقا بحاجة لمعرفة ما يوجد في قلب النجوم بقدر ما يحتاج لمعرفة ما يوجد في قلبه, إن الأمر أشبه بالوعظ و الإرشاد الاجتماعي, عليك أن تساعد الآخرين على فهم هدفهم والسبب في وجودهم, إن أسباب الوجود لا تُصنع صنعاً, الإنسان لا يستطيع في الحقيقة بناء جوهره الداخلي بل يكتشفه وبالتالي يكتشف سبب وجوده, الأمر بأكمله خارج نطلق الوعي, إنه في أعماق اللاوعي حيث تتشكل الحقائق ببطيء, وهذا أمر لا يعلمه العديد من الأفراد, حيث أنهم يتصورون أن سبب أو هدف وجودهم يصاغ بعبارة من خمس أو ست كلمات واضحة ويمكن إدراكها بسهولة وكأنها "كلمة السر" التي ستمنحهم السعادة والدافعية في الحياة إلى الأبد, مع أن الأمر بأكمله مختزن في ذواتهم اللاواعية والتي يتوجب عليهم اكتشافها بأنفسهم, إن كانت أسباب الحياة أشياء تؤذي قلوب البشر فليس البشر في حاجة إليها, الأسباب الخاصة بالوجود هي أمور تمنحنا الدافعية والرغبة في الحياة والتمسك بها إلى أقصى حد ممكن. معاني الوجود هي أمور تساعدنا للبقاء أحياء عندما يفترض أن نكون أمواتاً, هي ما تجعلنا نفعل المستحيل للدفاع عنها. لذا عندما لا نمتلك في قلوبنا أشياءً ثمينة ندافع عنها فما الذي يبقى لنا؟! لوهلة تبدو تلك العبارات فضفاضة المعاني ولا تشير إلى شيء محدد أو ذو أهمية كبير, لذا أعتقد أنه من المفيد حقاً استعمال الأمر في الحياة العملية لإدراك حقيقته.

علماء الفلك والفيزيائيون ليسوا مخطئين, هم يعتقدون أن البحث في أسرار الكون يختزل أسباب الوجود لأن ذلك ما يحبون القيام به بالفعل, وبالنسبة إلى عامل كادح فالذهاب صباحاً إلى العمل لتأمين لقمة العيش للأبناء هو الهدف الحقيقي لوجوده, وهو لا يعتبر الأمر حملاً ثقيلاً كان يمكن تفاديه, بل يعتبر أنه من المستحيل حقاً تصور نفسه دون ذلك العمل "هدف وجوده".

عندما يبدأ بعض الآباء بفقدان إرادة المعنى تلك, يبدؤون في تعيير أبناءهم وتذكيرهم المتكرر بفضلهم عليهم, وهذا ما يحصل للجميع طوال الوقت!! عندما تبدو الحياة قاتمة ومملة حقاً وخالياً من الدافعية فهذا يعني ببساطة أننا لم نعد نحب ما نفعله, وإذا لم نفكر أو نفعل شيء نحبه فالأغلب أن تلك الحالة ستستمر, "الإيمان والحب" تبدو عبارات مفهومة تماماً للوهلة الأولى مع أنها في الحقيقية ألغاز شديدة التعقيد, والحياة البشرية بدونها تبدو مستحيلة, لسبب ما لا نعرفه حتى الآن الإنسان لا يمكنه أن يحيا دون أن يؤمن بشيء ما أو أن يحب شخصاً ما. فسبب وجودك ليس شيئاً يمكنك أن تراه بكلتا عينيك أو أن تصفه بالكلمات بل هو شيء عليك أن تشعر به, فهو ليس شيئاً مرتبطاً بالمنطق والعقل بقدر ارتباطه بالمشاعر والقلب, إن الأمر مثير للاهتمام, إنها مشابه للحيرة التي اتسمت بها حياة النبي إبراهيم عليه السلام, عندما أخذ يراقب تقلب الظواهر الطبيعية بحثاً عن سر الوجود, وفي حين أن تلك الحيرة هي أسباب للفوضى العقلية والاضطراب إلا أنها خلفت شخصاً طيب القلب وحساساً جداً كسيدنا إبراهيم..

يقول تعالى:

(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) [144 سورة التوبة]


سبب تعاسة البشر في هذا العصر أننا اعتقدنا بأن مليء حياتنا بالأشياء "ذات القيمة المادية العالية" وحتى وإن لم نحبها أفضل من ملئها بالأشياء التي نحبها حقاً، والتي قد تكون ذات قيمة معنوية روحانية عالية, كأن يتم إجبار الشخص على دراسة الهندسة أو الطب مثلاً لأن ذلك من المفترض أن يجعل حياته أكثر راحة من الناحية المادية بدلاً من التأليف أو الفنون لأنها أمور لا تطعمنا الخبز اليومي, وصحيح أن بعض الأشياء التي نحبها قد لا تستطيع أن تساعدنا على العيش بمستوى مادي عالي ولكنها في الحقيقة تمنحنا ما هو أهم من ذلك, هي تساعدنا على النضج والتقدم في الحياة وتساعدنا كي نحيا, وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان! هناك يكمن ذلك الشيء الباطني, والذي من المهم حقاً إدراكه, إن فعل الأشياء التي لا نحبها هي وسائل للبقاء فقط وليست نمط للحياة, نحن مثلاً قد لا نحب الإبر ولكننا بالتأكيد لا نحب الإصابة بالأمراض المعدية, أما إذا استمررت في فعل الأشياء التي لا تحبها فقط لأنها ضرورية للبقاء ضمن مستوى معيشي معين أو مكانة اجتماعية أو ما شابه, فأنت في الحقيقة لست سوى أداة في أيدي الآخرين, ومن الصعب عنها أن تعكس جوهرك الداخلي الخاص, وعندها ستفقد بالتأكيد المعنى الحقيقي.. لوجودك.
 

غسيل الأدمغة
إذا كان العالم بالفعل خالياً من المعنى، فلماذا يصعب علينا رؤية تلك الحقيقة؟ ولماذا تبدو غريبة عندما نسمعها للمرة الأولى؟ ليس الأمر مرتبط بالحقيقة ذاتها بقدر ارتباطه بطريقة التفكير البشري.. وأيضاً طريقة إدارة هذا العالم..

هناك البشر... المليارات من البشر مجرد التفكير في هذا العدد الهائل يصيب أي شخص ينوي السيطرة عليهم بالهلع, كيف يمكن لأي شخص أي كان أن يبقي هذا العدد المخيف تحت السيطرة؟ لنأخذ الصين على سبيل المثال, لا تمتلك الحكومة الصينية فعلياً القدرة على ضبط 1,3 بليون إنسان بالقوة العسكرية وحدها, ببساطة لا يمكن لثلاثة ملايين جندي التحكم في ألف وثلاثة مائة مليون فرد, ولذا إخترع قادة الصين فكرة جديدة "الثورة الثقافية" المضحكة؛ أن تعزز في الشعب فكرة الوطنية والانتماء والفخر الحضاري بالأرض والعلم والتاريخ, بينما أنت في الحقيقة تسرق جيوبهم وتتحكم في عقولهم وحجتك الوحيدة في ذلك أنك إن لم تفعل ذلك فغيرك سيفعل! فالوطني هو مجرد آدمي يصرخ على قطعة من كوكب الأرض بعبارات غير مفهومة للآخرين, كيف يمكن للحكومات حول العالم جعل أفرادها يتماشون مع سياساتها الأيديولوجية والثقافية والاقتصادية والعسكرية؟ ببساطة بغسل أدمغتهم!

عندما نشاهد كل تلك القنوات والبرامج على التلفاز وموجات الراديو والإنترنت ناهيك عن الجرائد والصحف وما شابه من وسائل الإعلام "وسائل توجيه الوعي" ألا نتسائل لماذا تنفق الدول والحكومات كل تلك البليونات من الدولارات في "تقديم خدمات إعلامية مجانية" ألهذه الدرجة يحبوننا؟ ما هي الدول؟ ما هي الانتماءات؟ وماذا تعني الوطنية حقاً؟ نحن كبشر لا نختلف في التركيب العضوي أو الفطرة الأساسية, ونعيش جميعاً على كوكب واحد, وبالتأكيد نحن نكره الحروب والتلوث والدمار, فما الذي يجعل هذا الكوكب في وضع سيء إلى هذه الدرجة؟

السبب هو غياب الوعي العالمي, الولاء للعالم والأصل, فالدول هي شركات عملاقة تحاول أن تصور بأن الحدود المرسومة -افتراضياً- هي حدود حقيقية بأن الحواجز بين البشر موجودة بالفعل, بينما في الحقيقة نحن لسنا منفصلين إطلاقاً بل متصلين إلى أقصى درجة ومن كافة الجوانب, وتريد أيضاً أن تخفي الحقيقية القائلة بأننا كمجموعات بشرية نخضع لسيطرة أقلية تافه تملي علينا كل شيء، ما يجب علينا أن نعرفه أو أن نفهمه خلال حياتنا من الميلاد إلى الوفاة, كل الحقائق التي تعلمتها في هذه الحياة هي موجه بالكامل وحتى لو تصورت بأنك بالفعل متحرر عقلياً, فإنك تخضع لدرجة ما من غسيل الدماغ, إن الفكرة الأساسية في التوسع الإمبراطوري الإسلامي خلال القرون الثمانية الأولى له استند على فكرة بسيطة جداً يغفلها الجميع, التوحيد نحو الأصل, والأصل هو الفكرة الواضحة والتي تقول أن البشر عائلة واحدة حقيقية, تعيش على أرض واحدة, تتشارك في مهمة واحدة وفكرة واحدة.

يقول الله تعالى:

((وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ)) [20 من سورة الروم]


((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) [1 من سورة النساء]


    إن انقسام البشر إلى كل تلك الدول والقطع المنفصلة لا معنى له في الحقيقة, لأن الجميع يحسب أن تلك الحدود حقيقية وأنه يمكن أن يعزل نفسه بها في الحين أن كل ما يفعله الجميع هو إغلاق أبواب منازلهم المتراصفة على شارع واحد, ولذلك تنجح كل دولة في وضع "ثورات" اقتصادية وثقافية وعسكرية ويخفق الجميع عند التفكير في حلول لمشاكل هذا الكوكب, لأننا ببساطة لا نعير أي ولاء للأرض شيئاً بينما ينصب ولاؤنا بأكمله إلى حكوماتنا وأنظمتها الإعلامية والاقتصادية والعسكرية والفخر الوطني التافه, كل الحضارات وكل الثقافات هي متصلة في مرحلة ما من التاريخ, كل البشر بلا استثناء يمتلكون تلك الرغبة في العيش بسلام ورفاهية وتقدم حضاري وعلمي, إن لم نتبنى قيم المساواة البشرية العرقية والثقافية والروحية واستبدلناها بالتعصب العرقي والديني والفلسفي الفارغ فإن الصراع والحرب هي مصيرنا إلى الأبد, إن الثورة المعلوماتية أسهمت في تقارب الشعوب ثقافياً وعلمياً, ما هي الرسالة التي نريد تقديمها خلال ذلك المنبر العالمي؟ كيف ننمي الوعي العالمي بين الأفراد حول العالم؟ وبالتالي ننمي السلام والرخاء العالمي؟

إذا إستطعنا التحرر من التنويم المغناطيسي الجماعي الذي تفرضه علينا حكوماتنا فقد نمتلك فرصة, إن مسألة التحرر هي مسألة ذاتيه بالكامل, عندما يبدأ الفرد بالتصرف بشكل معاكس لما تتوقعه حكومته فيمكن القول عندها بأن هذا الشخص بدأ بامتلاك إرادة حرة, كالتظاهر ضد الحرب مثلاً, فنحن نفشل في فهم هذه الظاهرة في الغرب وننسب الفضل فيها إلى مدى"عدالة قضايانا" بينما هي في الأساس تكمن في انتصار داخلي للإرادة الحرة والإحساس الإنساني لدى الطرف الآخر, ما يفتقده البشر في هذه المنطقة من العالم حسب رأي هو الضمير, إن نسب التخلف الحاصل في بلداننا إلى فساد الشعوب هو مفهوم خاطئ تماماً, المشكلة راجعة في الأساس إلى انعدام المسؤولية والضمير لدى الحكومات ناهيك عن الحيرة والانشغال بلقمة العيش اليومية للأفراد, هم ببساطة يضعون الطريق الذي يجب أن نسير فيه ونحن كالخراف نسير تماماً حسب الخطة, وبدقة متناهية تتفوق أحيانناً على الدقة الإلكترونية, لا أعتقد أن الجلوس أمام التلفاز ومشاهدة الإعلام الموجه مفيد بالفعل, ولا أعتقد أيضاً أن تفريغ الأمر كأعمال عنف باتجاه هذا أو ذاك يحمل أي معنى مؤثر, إن الأثر الحقيقي يكمن في تغيير المفاهيم في العقول, إذا استطعنا أن نجعل الجميع يؤمن بشيء ما فإن المستحيل يصبح حقيقياً, وعندها تصبح الهزيمة مستحيلة, والتغيير واقعاً, كيف نفرض تغيير ما خلال العالم؟ لا نحتاج أن نفرضه بالقوة! في التاريخ الإسلامي مثلاً لا نذكر كيف تحولت إندونيسيا إلى أكبر دولة إسلامية في العالم, وبلاً من ذلك نذكر المعارك والغزوات والفتوحات... إلخ وغيرها ونفخر بها كل الفخر, وما فعله مجموعة من التجار خلال رحلة تجارية عادية لا يعتبر بالنسبة لنا شيئاً مهماً مع أنه أسهم في انتشار الإسلام في منطقة بعيدة جغرافياً عن الجزيرة العربية!! مع الصعب في الحقيقة التخيل بأن مجموعة صغيرة امتلكت كل تلك القوة لتغيير هذا العدد الهائل, وفي الحقيقة لم يقم أحد منهم بفعل شيء سوى ما رآه صحيحاً, عندها يصبح الشخص مثالاً للتغيير وعندها يأتي التغيير لا محالة.
 

 

*  *  *

 

محمد العمصي

 

 

مقال معاد نشره

 

طباعة الصفحة من أجل طباعة الصفحة، تحتاج إلى قارئ PDF

 

 

 

للاتصال بنا

ahmad@baytalsafa.com

أحمد الفرحان -الكويت.

 

 

 

facebook

أحمد الفرحان

مجموعة الاسقاط النجمي

مجموعة التحكم بالأحلام

 

 

 

 

 

"لو كان الفقر رجل لقتلته" رغم حجم الصدقات التي يدفعها الشعب البترولي. إلا أن لا زال الفقر والمرض والطمع موجود. نحتاج إلى حياة جديدة تنفض الغبار لتنتعش الإنسانية من جديد.

مالك أمانة، فانتبه أين تصرفه.. للسلاح أم للسلام.

 

الدعم المعنوي لا يقل أبدا عن الدعم المادي، لأن كلاهما يعبران عن قدرتنا على صنع واقع صحي جديد.

 

 

____________________________

جميع الحقوق محفوظة بالملح وبعلب صحية