|
|||||||||
> الصفحة الرئيسية - الحكمة - مقالات أخرى |
|||||||||
المعرفة الفطرية
يمكن النظر إلى المعرفة الفطرية كتحضير للتأمل, المعرفة الفطرية أو المعرفة الصافية
ضرورية للوصول إلى درجات عالية من الوعي, هناك شيء يمكن ملاحظته عند النظر إلى جميع
المؤلفات أو الآراء في مجالات العلوم الباطنية, جميع
الفلاسفة أو المفكرين أو حتى الأفراد العاديون
يَصِلون - وعند التفكير بالمفاهيم
الباطنية - إلى نتائج متقاربة أو صور متشابه, هذه الوحدة في الإدراك البشري تدل على
وجود وحدة للوعي البشري... أو مصدر واحد لجميع
الأفكار, ينظر البعض إلى هذا المصدر كشبكة عالمية للإدراك هو نوع
من الفضاء الأثيري حيث تقبع جميع الأفكار التي تخطر على البال البشري... مستودع من
المعرفة المتراكمة ونحن بعملية التفكير نجذب الأفكار التي نبحث عنها... فالتفكير
هنا عبارة عن عملية بحث في الأثير وبقدر قوة إدراكنا
وعمق وعينا نستطيع الوصول إلى معرفة أعمق وأوسع... وهذه الطريقة في تفسير وحدة
الوعي البشري جذابة نوعاً ما، ولكنها ضعيفة فكرياً، وهي تفترض قدرة تخاطرية لا واعية
كبيرة يفتقد معظم الناس لها. لا أنفي إمكانية وجود مثل تلك
"الشبكة" لكن لا أعتقد
أنها قادرة على حمل الفكر والمعرفة الإنسانية والقيام بدور الوسيط بين الفكرة
"التي
يفترض وجودها سابقاً" والمفكّر وفتح قنوات اتصال تخاطري عالمية وصافية هي أمور
بالتأكيد لا يمكن إثباتها أو مناقشتها علمياً, أعتقد أنه يمكن افتراض وجود شبكة
مماثلة ولكن للمشاعر, وفي العديد من الحالات عند الوصول إلى درجات معينة في التأمل
فالبعض يتحدث عن مشاهدات لأحداث تبدو واقعية لأشخاص يتألمون أو يشعرون بالخطر أو
القلق أو مشاهد تضم مؤثرات ومشاعر قوية وحالفني الحظ في اختبار بعضٍ من هذه الظواهر
ولا استطيع هنا التأكيد بأن تلك الصور أو المشاهد كانت مشاهدات من نسج الخيال أم هي
رسالات تخاطرية تطلق في الأثير بشكل لاواعي، ولكنها كانت تبدو واقعية جداً لدرجة أنك
تستطيع أن تقرأ رقم لوحة سيارة أو عنوان منطقة أو ما شابه، ولكن من المستحيل التأكد
من الوقت أو حقيقة حصول تلك الأحداث وترتيبها. لكن بالتأكيد يمكن الافتراض بأن
هناك نوع من الوسط أو المجال التي تتحرك فيه الأفكار والمشاعر الإدراكية بحرية,
ونظرية "الشبكة الإدراكية"
أو "حقل الوعي" تعطي أيضاً تفسيرات حول سبب
"الانفجار الإدراكي" الذي شهدته البشرية خلال ال200 عام السابقة وذلك عند زيادة السكان وتطور الوعي الجماعي.
كما أن هذا التطوّر هو نفسه الذي يدفع عدد متزايداً من الأفراد في الحاضر إلى
التوجه نحو العلوم والمجالات الباطنية, فهي نوع من أداة أو بوصلة لتوجيه الفكر
البشري. وفي ظل غياب أي دليل أو نظرية متكاملة حول آلية عمل هذه الشبكة فهي تبقى
مجرد افتراضات, لذا فالبديل الوحيد حسب رأي هي
المعرفة الفطرية, فهي عالمية يشترك بها الجميع كما أن الاتصال بها يكمن في الوصول بالإدراك أو الوعي إلى درجة معينة
كافية للوصول إلى المعرفة المخزنة وهي مقدرة متوفّرة للجميع. فنحن نتحدث عن مورد
داخلي ولكن عالمي في الوقت نفسه, يجعل جميع أفكارنا وآرائنا تتوجه نحو اتجاه عام
مشترك.
وقال مجاهد: "وميثاقه الذي واثقهم به، هو الذي واثق به بني آدم، وهم في ظهر آدم -عليه السلام-، ونحن وإن لم نذكره فقد أخبرنا الله تعالى به."
فالفطرة هي هذا العهد والميثاق المذكور في الآية, لذا فهدف وجودنا الحقيقي هو إستعادة تلك المعرفة وتذكرها..
هذا يدل على أن الإنسان كانت لديه هذه المعرفة الصافية بحقيقة وجود الله وأنه المعبود الوحيد.. وكانت مهمة الرسل ليست إنشاء معرفة جديدة بالله لم تكن في نفوس البشر بل تذكير الناس بالمعرفة القديمة التي بداخلهم والتي نسوها...
[يقال أن الدين] الإسلامي هو دين كامل وشامل وهو دين الفطرة, وهو يلبي كافة
احتياجات الجسد والعقل والنفس والروح... وحسب
اعتقادي فإن اختلاف جميع الفرق
والجماعات الإسلامية قائم على أمر واحد وهو أن كل فرقة
أو مدرسة تنظر إلى الدين من
زاوية واحدة... أي تأخذ بعضه وتترك بعضه, وهنا أيضاً يبرز المبدأ الذي تحدثنا عنه
وهو قصور الوعي البشري فالبعض يهتم بالآداب دون الأحكام أو الزهد دون العمل والبعض
ركز على العقل والمنطق والبعض
اعتمد فقط على النقل فأدخلوا الكثير من
الأحاديث
الموضوعة والبدع والخرافات والبعض ركّز على الرياضات الروحية والوجدان وإهمال النص
والبحث الشرعي فضاع منهم العلم... وهذا القصور هو الذي يؤدي إلى ظهور جماعات وفرق
كثيرة من جميع الأديان.. فالطريق الوحيد لتوحيد كل تلك الفرق والجماعات هي تجنّب
هذا القصور والبحث عن الأصول... وبالوصول إلى الوعي الصافي والذي يشترك به ليس جميع
المسلمين فقط بل جميع البشر يمكن الوصول إلى توحيد الفكر البشري نحو دين واحد وفطرة
واحد وأمة واحدة.
والعبادات في الإسلام مقسمة إلى عبادات جسدية كالصلاة والصوم وبعضها عقلي كطلب العلم الشرعي, وبعضها نفسي كتزكية النفوس من الحسد والبغض, وبعضها روحي كالدعاء والخشوع في الصلاة وإستحضار عظمة الله ومعظم العلوم التي ترعى الجانب الروحي رفعت إلى السماء... وإن أول هذه العلوم هو علم الخشوع, اليوم تستطيع أن تقرأ العديد من الكتب حول الصلاة وهي جميعها تتحدث عن أهمية الخشوع في الصلاة, لكن لا يوجد الكثير أو لا يوجد شيء حول كيفية الخشوع ؟... وماذا وما هي المراحل التي عليك تجاوزها لتصل إلى حالة الخشوع الصحيحة. ولو فكرت قليلاً لأدركت أن معظم صلاتنا هي صلاة بلا خشوع , فما أن نبدأ في الصلاة حتى تبدأ الأفكار اليومية في مهاجمة تفكيرنا ومهما حاولنا التخلص منها نجد صعوبة في ذلك, وقبض العلم يكون بقبض العلماء, لذا لدي قناعة بأن إعادة بعض تلك العلوم إلى الأرض هي مسألة ممكنة, وهذا يعني أن تلك العلوم مخزنة في قلوب العباد ويمكن إعادة بنائها بشكل مقبول,
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : هذا حسب رأي ما حدث عبر العصور... فمع قلة العلماء العارفين بمسائل القلوب ماتوا وبقي علماء الظاهر والمنطق والعقائد ولجهل الناس بالعلوم الوجدانية أو الباطنية وإستخفافاً بقدرها والزعم أحياننا بأنها بدع أو ضلالات ضاعت تلك الثروة العلمية وعندما أمسك الصوفيون بتلك العلوم زادوا عليها بعض الفلسفة والمناقشات التي برأي أخرجت العلوم الباطنية من مكانها الصحيح فانتشر الجهل والضلال وأصبحت تلك العلوم ومنها علوم تشخيص النفوس ينظر إليها بريبة وكأنها بوابات للانحراف والضلال وبذلك ضاع العلم, إن إيمان المسلمين الأوائل كان يستمد قوته من رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ورؤية المعجزات أمامهم, ولو قرأت ما في الأرض جميعاً عن أخبار الرسول وصفاته وأفعاله فذلك لن يعدل لحظة واحدة تراه فيها, ورؤية الرسول في المنام هي من الكرامات العظيمة التي قد ينالها الفرد المسلم في حياته لأنها تزيد من إيمانه. وعند وفاة النبي محمد بدأت الفتنة والمصائب تتتالي على أمة الإسلام. ولو كانت الفتنة قد دبّت في خير القرون بمجرد وفاة النبي، فكيف بنا نحن وقد ابتعدت بنا الأزمان عن سيرة القرن الأول من أهل الإسلام؟؟ بالتأكيد فإن قرآءة المراجع الإسلامية والكتب "الناجية من تلك الحقب التاريخية السابقة" سوف تكسبنا إيمانناً وثقافة إسلامية بقدر معين, وذلك القدر يختلف بقدر ثقتنا بتلك الكتابات والمخطوطات وهي تبلغ قمّتها عند صاحبها ثم تقّل تدريجيّاً حسب ثقة القرّآء بذلك الشيخ أو العالم ولاينسى الناقلون لعلم الشيخ أن يعطوك موجزاً عن سيرته ويذكرون فيها الفضائل والحسنات وأحيانناً الكرامات التي تمتع بها لتبني عليها ثقة قوية تساعدك على قبول أقواله أو نقله والإيمان بها, وهذا كل ما لدينا في هذا العصر المتأخر "الإيمان بالنقل", إن الحقيقة عندما تكون متأتية من نفسك فإنها تكون ذات مصداقية عالية, ولا يعدها أي شيء آخر خارجي ولو كنت تثق به كثيراً... والعديد منا يتفاجأ في مواقف معينة ويجد نفسه تنهار أو تضعف بشدة وتتزلزل معتقداته عند وقوع مصيبة أو عند مناقشة أحد المتكلّمين وهذا أمر نراه في حياتنا اليومية, وتجده يقول "لم أعد اعرف شيئاً!" ويلقي باللوم على الله أو القدر أو ما شابه من الحديث الذي ينم عن ضعف الإيمان وحالة الصدمة هذه ناتجة في الأساس إلى ضعف في معرفة الذات... ولمن لم يعرف ذاته وحقيقتها فكيف سيبقى متماسكاً عبر الزمن وكيف يديرها, إن ضعف الأساليب الخارجية نابع في الأساس عن ضعف الإدراك الذي يحاول زرع الأفكار في باطن النفس بشكل إجباري, وإذا لم تلقى الأفكار القبول من النفس فإنها تبقى هناك حتى تضعف قوة الإدراك أكثر وتنسى تلك الأفكار مع الزمن وتعود للخارج... ولذلك يفشل العديد من الأفراد في التغيّر والتخلّص من العادات القديمة... فالتغيّر إن لم يكن نابعاً من قلبك فكل ما تفعله هو مجرد هدرٍ للوقت, لذلك فجعل الوعي الصافي أو الفطرة كشمس مضيئة في داخلك يضمن أن التغير الذي تحدثه في حياتك هو تغيير دائم ومستمر. وجميع الرسل عليهم السلام من سيدنا إبراهيم إلى سيدنا محمد، كانت لهم تلك الأوقات التي يخلون بأنفسهم ليحاولوا تأمل حقيقتها فأصبحوا جميعاً سليمي الفطرة وعندها توجهوا إلى شعوبهم ليساعدوهم في تحرير أنفسهم وليضعوا فطرتهم في مكانها الصحيح من الحياة.
معظم الناس لا يدركون حقيقة الفطرة التي أودعها الله في قلوبهم لذلك فهم تعساء,
ومهما حاولوا تغيير أنفسهم بدوافع خارجية فإن التغيير يكون مرتبط بمدى قوة تلك
الدوافع ثم ما يلبث أن يقل ويضمحل في النهاية.
محمد العمصي
| |||||||||
|