|
|||||||||
> الصفحة الرئيسية - الحكمة - مقالات أخرى |
|||||||||
السعادة
السعادة مثل كل الأشياء في هذا العالم، نتحدث عنها كشيء مادي أيضاً... كشيء يمكن الوصول إليه بسهوله. ويجيد الناس الحديث عن هذه السعادة وكيفية الوصول إليها. في واقع الأمر فإن السعادة تتغير بتغير الشخص. فالشخص المادي - بقصد أو بدون قصد - يجد السعادة في اقتناء المادة. أمّا الذين تقل لديهم هذه النزعة المادية فلا تعد تلك الأشياء جالبة للسعادة... بل تصبح نقمة عليهم أحياننا. فالوصول إلى السعادة لا يمكن في أن البعض مخطئ والبعض مصيب فالجميع مصيب وقد يجد الجميع السعادة في ما يتمنون الوصول إليه. وإن كان أحدهم مقتنعاً بأن اقتناء سيارة أو الفوز في مسابقة أو صدم رأسه في الحائط سيجلب له السعادة فبالتأكيد سيجدها هناك.. السؤال الحقيقي هو أي تلك السعادة هي الحقيقية؟ بالتأكيد فإن أنواع السعادة المتأتية من الطبائع المادية لابد زائلة ولو بعد فترة من الزمن – كما تتأثر المادة بعوامل الزمن. إن السعادة الحقيقية هي القادرة على البقاء مع صاحبها إلى النهاية، هي التي ترك أثرا لا يمحى، لها صدى لا يغيب.
لماذا لا يجد الناس السعادة؟
لماذا لا تستطيع المادية مساندتهم في هذه المحنة؟
السعادة الحقيقية متأتية من الطبيعة الداخلية للبشر فهي كيان غير مادّي ولذلك
فالمادية لا تعترف بها فكيف تتعامل مع شيء لا تعترف بوجوده.
كما أن ربط أحياننا
ما بين السعادة وما بين إشباع الرغبات الجسدية أو الرغبات العلمية والعقلية أو
التنسّك والتعبّد. انظر مجددا... الأطفال سعداء بطبيعتهم.. وهم بالتأكيد لا يدركون الشهوات الجسدية ولا يدركون العلم والفلسفة وبالتأكيد لا يعرفون المفاهيم الدينية.. ومع ذلك فهم أحباب الله, وضحكاتهم تجلب السعادة حتى إلى أتعس الناس,وهي تدفع الجميع بشكل لاواعي إلى الابتسام وكأنها عدوى من السعادة,فما مصدر هذه السعادة؟ عندما نكون أطفالاً فإن إدراكنا يكون متصلاً بشكل مباشر بفطرتنا, وهذه الفطرة هي نور إلهي أودعه الله في قلوب جميع البشر, فالسعادة لا تكون إلا بإدراك هذا النور.. وعندما نأتي إلى هذا العالم نكون متصلين بهذا النور بشكل كامل ومع تقدم السن نبدأ بفقدان هذا الاتصال تدريجياً نحو العقل والجسد. فنحن نتخلى بشكل تدريجي عن طبيعتنا الروحية لصالح طبيعتنا المادية.. وعند اكتمال النضوج الجسدي والعقلي, تكون المادة والإدراك قد أحكمتا السيطرة على طبيعتنا وبالتالي نبدأ بالتأثر بالطبيعة المادية للعالم فنصبح نقاد وفلاسفة وعلماء ورجال دين. فإذا ما أصابنا مؤثر سلبي مادي... نحزن ونتألم وإذا ما أصبنا شيئاً من المادة نفرح. وعندما نكون ماديين تماماً فإننا نتجاهل فطرتنا بشكل تام فنصبح مستعدين للكذب والاحتيال والسرقة وحتى القتل لأجل المادة وكلها أمور تخالف الفطرة. وهنا تكون الطبيعة المادية قد تغلبت على الطبيعة الفطرية.
السعادة الحقيقية لا تكمن سوى في إدراك هذا النور الإلهي الموجود في نفوسنا جميعاً.
والحقيقية الكاملة لا تكمن في الكون المرئي فقط بل في تأمل نفوسنا وأسرارها.
هناك العديد من الآيات والأحاديث التي تحدث على التدبّر في النفس وإدراك طبيعتها لأنه إن فعلنا أصبحت السيطرة علي أنفسنا أسهل وهذا ما يسمى "جهاد النفس" وبإدراك بديع خلق هذه النفس يدرك المرء عظمة الله ويدرك هدفه في الحياة ويعرف معنى السعادة الحقيقية.
إن التأمل في النفس هو أرقى أنواع التأمل وهو الذي يوصل الإنسان
إلى حقيقة الوجود وأصله وهو الله, إن توجيه مراكز إدراكنا نحو الداخل هو أمر غير
مألوف لمعظمنا, فنحن كائنات اجتماعية بطبيعتنا وإدراكنا ينصب دائماً نحو العالم
الخارجي وحول الآخرين ولذلك نفترض أن السعادة يجب أن تأتي من هناك, ودائماً تتغلب
طبيعتنا الاجتماعية على طبيعتنا الانعزالية, ورغم ذلك فجميع الأحداث المؤثرة
والجليلة والاكتشافات والاختراعات في العالم تمت في جو من التأمل والعزلة, وجميع
القرارات المهمة في حياتنا تأتي من داخلنا, فنحن في النهاية خاضعون لتأثيرات
واستقرار عوالمنا الداخلية... لذلك لما لا تكون السعادة نابعة من داخلنا حينما نعرف النور الإلهي
والجوهرة الباطنية التي لا تشوبها شائبة ولا يمكن لها أن تسرق أو تصدأ
؟؟
ليس هناك مشكلة.. الأمر فقط يتطلب منا إدراك ذلك الجوهر.. ويمكن إدراكه الآن.
الحرية والسعادة: وتطوّر مفهوم الحرية خلال الزمن, ففي الماضي كانت الحرية من العبودية هي الفكرة السائدة ثم انتقل الأمر إلى الحريات الشخصية والعامة وحرية المعرفة وغيرها في العصر الحديث, إلى مفهوم جديد نريد أن نصل إليه وهو تحرير أنفسنا. ويحق للشخص هنا أن يسأل كيف نحرر أنفسنا ومما نحررها؟ أعتقد أن البشر اليوم ليسوا أحراراً بأنفسهم.. فنحن نخضع للمؤثرات الخارجية عديدة وهي التي تقرر من نكون وكيف تكون أحوالنا وسلوكياتنا, تحرير أنفسنا يعني أن نستعيد السيطرة عليها بدلاً من أن تبقى هي أو المؤثرات الخارجية صاحبة القرار, ثم السيطرة على كل ما يعيق تقدم سيطرتنا من شهوات أو مطامع أو مفاسد. الإنسان مكون من عناصر أربعة هي الجسد والعقل.. النفس والروح, ونحن نأتي من العالم غير المرئي إلى هذا العالم ونحن لا نسيطر على أي من تلك المكونات. فالطفل لا يسيطر على جسده بشكل كامل ويترنح في المشي.. ولا يسيطر على وعيه وعقله فلا يكون مكتمل الإدراك. والنفس لا تكون قد امتزجت بعد بهذا العالم ومادته فلا يدرك الأطفال الطمع أو الحقد أو الجشع.. فالأطفال يكونون مجرد أرواح طاهرة لا تدرك عقولهم المنطق أو الجدال فهم متصلون بفطرتهم اتصالاً تاماً ما يجعلهم مؤمنين بالفطرة كسائر المخلوقات كالشجر والحجر والسماء والأرض.. فالأطفال أحباب الله لنقاء فطرتهم وهم يتصفون بصفاتها كالفرح والسعادة, وهذا ما يجب أن يكون عليه الوجود. وعندما نتقدم في العمر نبدأ في سيطرة وهمية على عناصر وجودنا وبالتالي تفقد الفطرة السيطرة تدريجياً نتيجة ميل الإدراك نحو الصورة الماديّة في العالم. ونؤمن بعد فترة(بوعي أو بدونه) بأشياء عديدة, فيلجأ البعض إلى المنطق لتّعامل مع الأمور... ويلجأ البعض إلى الإحساس ويلجأ البعض إلى آراء وأقوال الآخرين والبعض لا يتعامل مع الأمور بل الأمور تتعامل معه فيبقى متأثراً فقط بهذا العالم ولا يؤثر فيه. وفي خضم تلك الفوضى يفقد معظمنا السعادة بوجودنا وينساها.
فكل ما يحصل لنا هو ناتج عن فقد الفطرة السليمة التي هي أساس الفرحة والسعادة بأن
نكون مخلوقات الله ونتاج مشيئته, فبعد أن كان إدراكنا وفطرتنا متصلين معاً في مرحلة
الطفولة فكنّا متصلين تماما بالسعادة الفطرية افترقا (أي الروح والإدراك) عن بعضها
ونشأت حول الروح ثلاث جدران أو بوابات هي النفس ثم العقل ثم الجسد ويتمركز الإدراك
في مرحلة البلوغ عند نقطة بين العينين في أعلى الرأس وتقبع الروح ومعها الفطرة في
أعماق قلب الإنسان, وكلما إزدادت هذه الجدران الثلاثة امتزاجا بالعالم الحسي زاد
البعد بين الإدراك والروح, فيغلب المنطق والتحليل على الفكر إذا اتجه نحو العقل,
وكلما اقترب الإدراك إلى الجسد يزداد الجسد تخمة والعقل شكاً والنفس فساداً, وكلّما
اقترب الإدراك إلى الروح زادت قدرته على فهم المفردات الروحية وإدراك مكنوناتها
والوصول إلى اتصال تام بذاته... فيصبح قادراً على السيطرة على نفسه وعقله وجسده..
وهذا ما يطلق عليه في الإسلام جهاد النفس. فلا تسيطر شهواتها ورغباتها على إدراكنا
وأفعالنا بل نحن الذين نسيطر عليها ونوجهها.
((فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ)) [سورة
الروم/آية30]
محمد العمصي
| |||||||||
|