النظرة المادية للحياة
إن
النظرة إلى حال العالم اليوم تعطي فكرة واضحة عن طبيعة الوعي البشري, وصحيح أن متوسط
أعمارنا ومستوانا المعيشي وتغذيتنا وصحتنا بالإضافة إلى معرفتنا وإدراكنا قد تحسّن
بشكل كبير عمّا كان عليه قبل ألفي عام.
إلا أننا لم نصل
إلى تلك النقطة التي نشبع فيها كامل رغباتنا, بل دائماً نبحث عن المزيد والمزيد,
وإن كل ما يتمحور حوله فكرنا هو إشباع المزيد والمزيد من الرغبات فنحن نتحدث عن
المال، الطعام، التسلية وغيرها, وكأننا بتداول المال وجمعه وتناول الطعام وهضمه
وإشغال الوقت وقتله نحيا!
هل هذه الحياة؟
هذا العالم المادّي مجنون
إن الاستمرار بالحياة على هذا المنوال هو الجنون بعينه.. إن جميع الحاجات التي
نركّز كل احتياجاتنا عليها هي في الأساس احتياجات جسدية، فكل شيء في حياتنا أصبح
يتمحور حول الجسد. ورغم إدراكنا جميعنا بأننا سنموت يوماً ما وسيضمحل عندها كل ما
أفقناه على هذا الجسد إلا أن ذلك لا يغير من وتيرة هذا الاتجاه الأعمى نحو الجسد.
ونحن
كبشر تمادينا في الاهتمام بهذا الجسد فاتجهنا كلياً نحو مادته... مادة هذا
العالم... المادة المنظورة.
وبهذا نحن صرفنا النظر عن عناصر وجودنا غير المادية.. وأصبحنا ننظر إلى أنفسنا على
أننا مجرد أجسام عضوية لا أكثر... ويمكن أننا وبدافع "الحنين" إلى الماضي عندما
كانت الجوانب الروحية هي الطاغية على عقول الناس قديماً, نميل إلى الاعتقاد بوجود
روحيّة ما حول هذا "الجسد العظيم" كنور خافت لا نشعر به ولا ندركه.. والحقيقة نحن
لا نعتقد أن في إدراكنا لهذا النور أي فائدة.
إن
مراكز إدراكنا متوجهة دائماً نحو الخارج.. نحو المادة.. ونحن لذلك لا نستطيع رؤية
الحقيقة الداخلية لأنفسنا. ورغم أن الباطن البشري يبدو مكاننا غامضاً. إلا أن طبيعة
هذا الغموض راجعة في الأساس إلى خوفنا من سبر ذلك العمق. نحن ننفق المليارات من
الدولارات سنوياً لسبر أعماق الكون والبحث في الفضاء. وكأن النظر إلى نجم في السماء
سيخبرنا من نكون أو ما هدفنا في هذا العالم, بالرغم أننا اليوم نعرف عن سطح النجوم
أكثر مما نعرفه عن أعماق أنفسنا.
نحن
هنا لا نتحدث عن جسم الإنسان المرئي الذي تدرك جوانبه العلوم, بل نتحدث عن الجانب
"الغير منظور" للإنسان من أحاسيس ومشاعر وأفكار وخيال وروح!
أعتقد
أن معرفة الذات وحقائقها هي ما سيخبرنا من نحن وما هدفنا في هذا العالم, واعتقد أن
العلم بمكنونات الذات أولى وأهم من العلم بمكنونات العالم الخارجي. وإدراكنا
لعالمنا الداخلي أساسي لفهم طبيعة العالم الخارجي.
لكن هذا لا يحصل, بل بالعكس نحن اكتسبنا طبيعة تفكير مادية جداً... الانغماس في
المادية يؤثر بوعي منا أو من دون وعي منا على توجهاتنا الفكرية.. فما يوائم طبيعة
تفكيرنا المادية نقر بوجوده وما يتنافى معه نحرمه الحق في الوجود. وربما هذه
الماديّة تمنحنا الشعور بالآمن لفترة. ولكنها على المدى البعيد تجعل حياتنا بلا
معنى. اليوم وفي فروع الفيزياء المتقدمة أصبح العلماء يتحدثون عن "ما بعد المادة"
وعن "ما بعد الطبيعة المادية للعالم" ويبدو أن الماديّة لم تعد تكفي لجعل هذا
العالم حيّاً, نحن إذن نتحدث عن علم قادم لا محالة وعن ثقافة متقدمة.. وقديمة في
الوقت نفسه.. وخلال الخمسين سنة الماضية حققت التنمية البشرية والعلوم الباطنية
وعلم النفس نجاحات كبيرة تتحدث عن نفسها... فقد عالجت العديد من المشكلات والأمراض
التي فشلت "المادية" في إيجاد الحلول لها. وأيضاً تبقى علوم الباراسيكوجي هي
الوحيدة القادرة على تقديم تفسيرات للظواهر غير المادية.. ويزيد الاعتقاد يومياً
بأن العالم الذي نعيش فيه يمتلك جانباً روحيا وليس مادياً تماماً... وتلك فكرة بدأت
تؤيدها العلوم والفلسفة والأحاسيس. ويبدو أن المذهب المادي بدأ أخيراً بالانهيار
على نفسه.
محمد العمصي
مقال معاد نشره
طباعة الصفحة
من أجل طباعة
الصفحة، تحتاج إلى قارئ
PDF |
|
|