|
|||||||||
> الصفحة الرئيسية - الحكمة - مقالات أخرى |
|||||||||
ثنائية الادراك البشري
(( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ )) [البقرة 235] يتحكم في إدراك الأفراد عاملين مهمين: العقل والإيمان، الثنائية الخاصة بالإدراك. لفهم آلية الإدراك هذه يجب تحليل جميع كل ما نفكر به حسب وجهة النظر هذه, نحن في حياتنا نقبل المنطق كآلية لإدراك حقائق الأشياء والخبراء يؤكدون أن التكنولوجيا الحديثة ستبقى لمدة طويلة من الزمن لأنها مبنية على أسس قوية من المنطق والمعرفة. فالأشياء المنطقية بالنسبة لنا هي أشياء متماسكة وقوية. وهذه حقيقة واقعة فنادراً ما نسمع أن حاسوبا ما أخطأ.. هي وإن حدثت تكون نتاج أخطاء بشرية سواء في الصيانة أو التوصيل. الحواسب أجهزة منطقية، والمنطق بالنسبة لنا هو الطريق الوحيد للعصمة من الخطأ... أما الإنسان فليس "ملتصقاً" بهذا المنطق المجرد طوال الوقت لذلك يرتكب الخطأ ؛ والخطأ هي الحالة التي تصبح فيها تصرفاتنا مبنية على أسس غير منطقية. والبشر بطبعهم غير منطقيّين تماما وكثير من التصرفات التي تصدر منهم ليست ذات أسس منطقية، لذا فالبشر يخطئون وهذه التصرفات أو الأفعال تؤدي إلى نتائج غير متوقعة، نتائج قد تتحول إلى كارثة ما. المنطق هو الركن الأساسي للفلسفة، وبالتالي هو الركن الأساسي لجميع العلوم الطبيعية والهندسية كالفيزياء النظرية والرياضيات. المنطق هو قوة حقيقية تحكم الكون المرئي... فمعظم الظواهر الكونية ظواهر تخضع للقوانين والمعادلات الفيزيائية والتي تتكون من كميات فيزيائية يمكن جمعها وطرحها وإشتقاقها وتكاملها واستخراج كميات آخرى منها وتوقع نتائج التجارب قبل القيام بها. القوانين الفيزيائية تستمد قوتها من كونها قوانين واحدة وثابتة في جميع أرجاء الكون المرئي.. طبعا ذلك لا يشمل مناطق الثقوب السوداء أو أطراف الكون المظلمة أو عند الوصول إلى سرعات قريبة من سرعة الضوء حيث تبدأ تلك القوانين بالتكسّر والإنحدار نحو الصفر المطلق. المنطق يستعين أحيانا بالحواس الخمس المادية كمداخل للإدراك المادي، ولكن العقل أو المنطق قوة أكثر رقياً من ذلك.. فهو يتوغل في قلب النسيج الطبيعي ويصل بالإدراك إلى مناطق موغلة في الصغر أو موغلة في الكبر.. مناطق ما كانت الحواس لتصل إليها أبداً. كذلك المنطق يمكن أن يتحطم في تلك الحدود المتطرفة، والوصول إلى حالة الصفر المطلق التي بيّنها أينشتاين هي إحدى تلك الحالات. ولسبب ما مجهول حتى الآن فإن الوصول بالأشياء إلى الحدود الدنيا العظمى أو الحدود الكبرى العظمى يجعل القيم الناتجة تبدو غير منطقية، وتبدأ القوانين الفيزيائية والمعادلات بالتصادم ببعضها. وقد يتساءل البعض ما المشكلة في ذلك ؟! بالنسبة إلى الفيزيائي، فهذه كارثة؛ فالعلم المنطقي كله قائم على هذه القوانين وعلى إفتراض أن هذه القوانين المنطقية ثابتة. والمبدأ السائد في علوم مثل الكوزمولوجيا (علم نشأة الكون) أو ميكانيكا الكم هو مبدأ اللايقين, فالنتائج هي عبارة عن إحتمالات فقط. ففي ميكانيكا الكم يمكن أن يوجد الإلكترون مثلاً في مكانين في الوقت نفسه. كما أن مفاهيم مثل الإتجاهات أو الزمن، أي قبل وبعد، لا قيمة لها وتصبح مشوشة تماماً. ويعود السبب في ذلك أن الكون أو الفضاء الذري بحد ذاته ممزق ضمن ذلك الحيز شديد الضيق. المشكلة تكمن في كيفية التصديق بأن تلك العوالم الفوضوية تصنع العالم المرئي المنتظم الخاص بنا. وفي الكوزمولوجيا عند البحث في شكل الكون أو طريقة نشأته أو ما هو الفراغ، فإن النتائج عبارة عن ترجيحات وافتراضات وليس حقائق. المشكلة في كل النظريات الحديثة أن فيها الكثير من الإفتراضات وبعضها يبدو غريباً. فنحن نفترض وجود عوالم متوازية وأبعاد إضافية فقط لجعل النظريات والمعادلات تعطي قيم منطقية. والحقيقة أننا نلجأ إلى الإفتراضات المسبقة بشكل كثيف في حياتنا اليومية , إن معظم المعرفة التي نختزنها هي افتراضات غير مثبتة، فأنت عندما تستيقظ من النوم صباحاً لا تتسائل عادةً إذا ما كانت الأرض في مكانها بعد، بل تفترض جدلاً أنها لم تتحرك من مكانها، كم ستكون الحياة صعبة إذا لم نستعن بكل تلك الإفراضات والمفاهيم المخزنة في عقولنا كحقائق مسلم بصحتها؟ العلوم الطبيعية والهندسة بشكل خاص مليئة بالمفاهيم والإفتراضات التي يُسلّم بصحتها، مثل ( الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين ). في الفيزياء يقضي العلماء قرونناً يفترضون وجود أشياء كمسلمات لابد منها، كالأثير مثلاً، أو الوجود الحسي للجاذبية دون تفسير آلية عملها. والعديد من المسلمات قائمة كحقائق ناتجة عن تراكم المحاولات الفاشلة لدحضها، مما يجعلها حقائق صحيحة مؤقتاً والنظرية النسبية العامة والقائمة على إفتراضات ومسلمات فمثلا: للضوء سرعة ، ويعتقد أن سرعته هي الحد الأعلى للسرعة في الكون، وثبات سرعته في الوسط نفسه هي حقيقة لم يتم إثباتها إلى اليوم. وبالرغم من هذا فالنظرية النسبية تعتبر من النظريات القوية والمتماسكة والتي تعد من الأركان الأساسية في الفيزياء الحديثة. نحن مكرهون على التصديق بصحة الإفتراضات والمسلمات لا لشيء سوى أن وجودنا يعتمد على صحتها. وهذا ما يضيف مفهموم جديد لطبيعة الحقيقة الخاصة بالكون المرئي. كل ما لا يمكن إدراكه بشكل واضح بالمنطق أو الحواس يدخل في دائرة الإيمان، فنحن نصدق بوجود تلك الأشياء. فهذا الإيمان أو التصديق قائم على الحدس والتوقع والاستنتاج العقلي المجرد وليس قائم على الإدراك المباشر (إدراك الحواس). نحن نقول في أنفسنا "أنه يجب أن يكون ذلك الشيء هناك... يجب أن يكون كذلك ليصبح الأمر منطقياً، ويعطي صورة مقبولة للأمور" فلا بد من وجود (جزىء الجرافتون) – الإفتراضي - لوجود الجاذبية ويجب أن توجد (الأبعاد الإحدى عشر) لتتمكن الأوتار الفائقة من الإهتزاز وتكوّن المواد والقوى الطبيعية من حولنا، ولابد من وجود (النقطة) لنبني (المستوى الإحداثي). ولابد للكون من إله ليوجد. والبشر منقسمون إلى صنفين؛ صنف يعطي الأولوية للعلم والمنطق. وصنف آخر يعطي الأولوية للإحساس والشعور. ولكن من هو الصائب ؟؟ في الحقيقة نحن بحاجة لكلا القوتين: قوة المنطق، وقوة الإيمان؛ قوة المنطق والمعرفة تساعدنا في البقاء, وقدرتنا على الإيمان تساعدنا على تجاوز قدرتنا البشرية والإنجاز والإستقرار النفسي. وداخل كل كائن بشري توازن: حساس بين المنطق والإيمان, وهذه النقطة هامة جدا، ويجب فهمها بشكل جيد. التوازن الخاص بالمنطق والإيمان يبني الإدراك الفردي. إن طغت قوة الإيمان على المنطق فنحن أماما أشخاص حساسين جداً للبيئة المحيطة وهم بطبيعتهم يسلمون إدراكهم إلى المبادئ التي يؤمنون بها ويصنعون في ذهنهم صورة للعالم توافق تلك المبادئ، ويؤمنون بأن تلك المبادئ هي حقائق ثابتة. وكل ما يعترضها أمر ما يعتبرونه غير حقيقي ولا يستحق الوجود، كما أنها – قوة الإيمان - تجعلهم يشعرون بالطمأنينة و الراحة. وفي الحقيقة هم يرون العالم - ليس العالم الحقيقي- بل العالم الذي يبدو من خلال تلك القناعات والمبادئ الإيمانية داخل عقلهم. وخلال إحدى المرات قابلت رجلاً هندياً والهند تدين بالهندوسية كديانة غالبة. سألت ذلك الرجل مرة: "هل تعتبرون الأبقار فعلاً آله؟" فنظر إلي وكأنه يتحقق من جدية السؤال، ثم أجاب: "نعم". وتسائلت في نفسي: "إن كانت تلك الأبقار آله، فماذا تكون الحمير والبغال؟... هل تعتبر من أوليائهم الصالحين؟!" فقلت له: "ألا ترون أن تلك الابقار أصلح أن تكون طعاماً منها أن تكون آله، بالتأكيد ستكون أكثر نفعاً" فقال: "لقد سألتني عن عقيدتي وأجبتك" وقد أبدى ملامح الشفقة عليّ والحزن لحالي وعدم قدرتي على إستيعاب جمال إلهه المزعوم. وهذا حسب رأيي مثال للإدراك المستند كلياً على الإيمان والشعور دون إعطاء أي إعتبار للعقل أو المنطق. وفي هذا العالم آلاف الأديان ورغم ذلك فدين واحد فقط هو الصحيح. في الدين الإسلامي لا يتحقق الإيمان دون العلم، فمن لقي الله على جهالة فكأنما لم يؤمن به. فالعلم وسيلة للوصول إلى الإيمان الصحيح بالله عز وجل. يقول الله عز وجل: (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) [18 آل عمران] (( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ )) [الزمر 9]
لقد عاب الله على المشركين العرب عبادتهم لما لا يضرهم ولا ينفعهم وهي أصنامهم، فهم لم يستخدموا عقولهم للإستدلال على خطأ إعتقادهم وإيمانهم، بل إتبعوا أهوائهم وشعورهم. وفي المقابل فإن نظرة مجردة إلى المنطق كقوة وحيدة مسيطرة على العقل تجعل المرء يستمر في طرح الأسئلة إلى مالانهاية. لكن إذا إستمررنا في طرح الأسئلة هل سندرك كل شيء؟ إن إختلال الإتزان نحو المنطق المجرد ودفع العقل إلى إدراك ما لايمكنه إدراكه، سيصل بالعقل إلى حالة الإنهيار الذاتي على نفسه ويمتص الإدراك أو المنطق إلى حالة تسمى "الجنون " فالمجنون غير قادر على الإدراك، وهو بذلك غير قادر على الإيمان أيضاً. وحالة الانهيار تلك نراها في الأجهزة والحواسيب "آلات المنطق" السبب الوحيد الذي يجعل تلك الأجهزة تتلف أو تتوقف هو جعل معالجاتها تتعامل مع كميات كبيرة جداً من البيانات تفوق قدرتها، فترتفع حرارة تلك المعالجات مع الوقت، فيصل النظام إلى النقطة التي ينهارعندها المعالج وهي اللحظة التي يتوقف الجهاز فيها عن العمل، وهذا ما يقابل حالة الجنون عند البشر. الجنون بحد ذاته منطقة موجودة داخل كل إنسان فكل إنسان له القابلية للامتصاص نحو الجنون. وما يحفظ الإدراك بعيداً عن تلك الفجوة المظلمة هي المنطلقات الإيمانية؛ الإيمان يردع المنطق عن الوصول إلى المناطق التي يبدأ عندها بالإنهيار. ونحن نلجأ إلى الإيمان بوجود الشيء لأننا ببساطة غير قادرين على إدراك وجوده بالمنطق المجرد. يقول الله تعالى: (( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا مسؤولاً )) [الإسراء 36] (( وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا )) [النجم 28]
والإيمان دون وعي هو إيمان المقلّد والذي يهتز عند أول شبهه. ومن يريد
إيماننا صحيحاً فعليه بالعلم. لذلك فإن الطريقة الوحيدة
لإدراك الأشياء إدراكاً صحيحاً يتمثل بالموازنة بين الإيمان والمنطق.
* * *
قــــــــوة
خفيــــة * * *
مبدأ
الشــــــــــك إن جميع حالات الوهم هي حالات تخفق فيها حواسنا عن إدراك الأمور على حقيقتها.كما أن هناك فشل أيضاً في الربط بين العقل مركز الإدراك وبين هذه الحواس ومنها نحصل على نتيجة خاطئة لحقيقة الشيء. ولا يمكن أن نجزم أيضاً بأن مبدأ الشك لا يمكن أن يصل إلى المنطق وهذه ستكون كارثة للفلاسفة الذين ينظرون للمنطق كإله لا يخطأ وكشيء ثابت وقادر على التماسك في وجه تيارات الزمن. ورغم أن حالات إنهيار المنطق نادرة وهي ما يجعل هذا العالم مستقراً إلا أن هذا لا يعني أنه كذلك في الحقيقة. بل إن مفاهيم مثل الحقيقة تبدو مفاهيم فضفاضة فكل شخص يرى جزءاً من الحقيقة الكاملة. ولذلك تنتج الآراء والتقديرات المختلفة. فنحن عاجزون على الإدراك الكامل للمفاهيم التي تبني العالم من حولنا.. إن الخطوة الأولى والأساسية نحو تحرير الذاتي هو بإدراك حقيقة هذا العالم، وحقيقة هذا العالم هي: أننا لا ندرك حقيقته. إن الإفاقة من حالة السُكر الجماعي التي يعيشها معظم البشر هو الأساس والطريقة الوحيدة التي قد توصلنا إلى الإدراك الصافي وحقيقة مكنون الأشياء. (( وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) )) [سورة الروم] رغم مرور أكثر من 1400 عام على آخر عملية تحرر للعقول بنور الإسلام فإن الناس بحاجة اليوم إلى التحرر مرة أخرى ... التحرر من عبادة المادة ... إلى عبادة الله الخالق لكل مادة.
محمد العمصي
ما كتبه أهل بيتنا بخصوص هذا المقال :
| |||||||||
|